شرفتني مهنة الصحافة التي أعطت عمري معناه، بأن يسرت لي اللقاء بالعديد من القادة العرب، رؤساء وملوكاً وأمراء، لكن جنوحي إلى الثقافة والرغبة في المعرفة والاستزادة منها اخذني إلى نخبة الكتّاب والادباء شعراء وروائيين ومؤرخين وقصاصين، اضافة ـ بالطبع ـ إلى الأساتذة في مهنة الصحافة، في مصر اساساً، كما في لبنان، فضلاً عن المراسلين الأجانب المميزين الذين يعرفون عن بلادنا ما لا نعرفه.
ولقد عملت في دور صحف عدة، قبل “السفير”، وأخذت قليلاً او كثيراً من أساتذة في المهنة، بينهم الراحلون رياض طه وسعيد فريحة وسليم اللوزي. وبقدر ما كان رياض طه خطيباً، كان سعيد فريحة راوية طريفاً وصاحب حبكة قصصية مسلية هي أقرب إلى الكاريكاتور، في حين كان سليم اللوزي خريج مجلة “روز اليوسف” ومؤسستها الطرابلسية فاطمة اليوسف ثم مجلة “المصور” لأصحابها ورثة جرجي زيدان.
وأخذتني ظروف عملي كمراسل إلى عواصم عربية عدة، وان ظلت القاهرة هي محطتي المفضلة، خصوصا وانها كانت في الستينات خاصة ثم بداية السبعينات صانعة الاحداث ومركزها.. وهكذا تيسر لي أن اتجاوز الصحافة إلى المفكرين وكبار الروائيين والشعراء، والى اساتذة الصحافة ومنهم احمد بهاء الدين، وفتحي غانم واحسان عبد القدوس ومصطفى وعلي امين، قبل أن تفتح امامي ابواب قلعة “الاهرام” فألتقي “صحافي القرن” محمد حسنين هيكل والعديد من اركان التحرير في الصحيفة الأولى والاخطر ـ آنذاك ـ في بلاد العرب مشرقاً ومغرباً وبين بين.
في اوائل ايار 1971 تيسر لي أن اجلس إلى “الأستاذ” لحوار امتد لساعات بحضور الصديق المشترك كلوفيس مقصود.
نُشر الحوار في “الصياد” وأخذته في اليوم التالي “الانوار”، واتصلوا بي من مكتب هيكل في “الاهرام” بالقاهرة، وفوجئت بأمينة سره نوال المحلاوي التي كان زملائي في “الاهرام” يتهيبونها، وكذلك ضيوف “الأستاذ”، لتهنئتي قبل أن تحولني اليه ليبادرني سائلاً: انت فين؟ يعني انت ترمي القنابل وتمشي.. على أي حال انا عايز اقول لك أن حوارك كان ممتازاً، وانا اطلب منك أن تأتي اليّ كلما جئت إلى القاهرة! ولولا شيء من الحرج والتقيد بالأصول والتقاليد المعتمدة لأعدت نشره في “الاهرام”!
غمرتني فرحة عامرة، خصوصاً وان “معلمي” سعيد فريحة، وسائر الزملاء في دار الصياد وخارجها، اخذوا يتعاملون معي وكأنني صديق “الأستاذ”، وذلك شرف لا ادعيه ونعمة لا أنكرها.
وتمر الايام… وفي صيف 1973 كنت قد باشرت الاستعداد لإصدار “السفير” قبل أن يستقر الرأي على “الاسم” اذ كان الخيار بين ثلاثة امتيازات: “الهدى” وهي للزميل باسم السبع، و”الجهاد” وكان امتيازها لطرفين لا يلتقيان: الحزب السوري القومي الاجتماعي ـ جناح جورج عبد المسيح، وحبيب مجاعص الذي كان يصدر اهم مجلة فنية في لبنان “السينما والعجائب”، بل وفي المنطقة العربية جميعاً، و”السفير” التي كانت أسبوعية اسسها الياس الحويك شقيق البطريرك الحويك الذي لعب دوراً تاريخياً في التأسيس للجمهورية اللبنانية، كما نعرفها اليوم.
قصدت القاهرة، والى منزل “الأستاذ” في بيته ـ مكتبه إلى جانب فندق “شيراتون القاهرة”، شارع النيل، في الجيزة بالقاهرة.
أخبرته عن مشروعي بتفاصيله الكاملة فنبهني إلى ما كنت اخاف منه:
ـ اسمع. تعرف انني اتمنى لك النجاح، فانت صحافي مميز واتوقع لك مستقبلا باهراً في المهنة. لكن عليّ أن احذرك: انت الآن حر، انت “ريبورتر” ومحاور وكاتب جيد. لكن مسؤولية الصحيفة، مالياً وادارياً، قد تأخذ من مهنيتك وقد تستهلكك فنخسر الصحافي الجيد ولا نربح صحيفة مميزة. أن ادارة الصحيفة وتمويلها وسائر التفاصيل اليومية قد تشغلك فتخسر نفسك كصحافي.
ـ قلت: مستحيل طبعاً، أن اتمثل بتجربتك، ولكنني اعرف أن كفاءتي في الكتابة وليست في الادارة، وسأتجنب السقوط في فخ الوجاهة،
قال وهو يودعني: سأكون إلى جانبك بقدر ما تحتاجني.
…بعد صدور “السفير” بفترة وجيزة، قررت السفر إلى القاهرة لعرضها عليه وسماع ملاحظاته.. لكن مخابرات انور السادات سبقتنا اليه، وكان علينا أن ننتظر الافراج عنه، لكي نزوره مهنئين بسلامته، لكنه حول الجلسة إلى مناقشة اعداد “السفير” التي تسنى له الاطلاع عليها، قبل أن يعانقني مهنئاً مع دعاء بالتوفيق، ووعد بالمساعدة “قدر الطاقة”.
ولقد ساعدني وساعد “السفير” بأكثر مما كنت أتوقع: فلم يأت مرة الى بيروت إلا وكانت زيارة “السفير” والجلوس الى اسرتها مستمعاً ثم مناقشاً وموجهاً ومؤكداً على ثوابت هذه المهنة الشريفة التي لها دور لا ينكر في حماية قضية الحرية والتقدم.
وصارت أسرة “السفير” تترقب زيارته بلهفة، وتجلس اليه تتعلم منه وتفيد من خبراته وثقافته العريضة وتجربته المميزة بنجاحها كرئيس تحرير مفرد وككاتب ممتاز بل هو صاحب مدرسة في الصحافة العربية.
كذلك كنا نقصده أربع أو خمس مرات في السنة، لنحاوره فنسمع منه التحليل الرصين المعزز بالمعرفة العميقة والمتابعة الدقيقة واللقاءات المهمة التي يعقدها مع مسؤولين كبار في الغرب كما في بعض لقاءاته العربية..
ولطالما نصحنا بقراءة بعض الكتب التي توثق لمراحل في التاريخ، وتقدم بعض أبرز القيادات السياسية وكذلك بعض كبار المفكرين والكتّاب وأهل الصحافة في الغرب والشرق.
وأظن أن بعض زملائي في “السفير” قد عرفوا “الاستاذ” أكثر من مجاميع الألوف من العاملين في الصحف ومختلف وسائل الإعلام المصرية والذين يتعيشون من المهنة ويبيعون جهدهم لعدد من محطات التلفزة والصحف والمجلات قبل أن يعرفوا ما يكفي ليكتبوا ما يفيد.
على أن أمتع اللقاءات كانت في مزرعته في “برقاش” حيث المنزل ـ الشاهد على التاريخ، اذ كان يجيء اليه جمال عبد الناصر ليمضي مع هيكل ساعات من النقاش، في هدأة المكان، بعيداً عن القصر الرئاسي وموجباته حول القضايا التي تشغله مع “الاستاذ” الذي كان أقرب اليه من معظم زملائه من أعضاء مجلس قيادة ثورة 23يوليو 1952.
هناك تعرفت على أسرته كاملة: السيدة الراقية هدايت تيمور هيكل، وأبنائه الدكتور علي والمهندس أحمد ورجل الأعمال حسن… وكان ثمة بعض الأحفاد.
لكن أهل الشر أعداء الثقافة والمعرفة، مناصرو الجهل، أقدموا قبل عام أو يزيد على مهاجمة “برقاش” وإحراق إحدى أغنى المكتبات في الوطن العربي والبيت الذي كان بحق متحفاً يضم بين جنباته لوحات رائعة لبعض أهم المبدعين من رسامي مصر وخطاطيها.
*****
في شباط من العام الماضي قصدت مع ابني أحمد القاهرة للاطمئنان على صحة “الاستاذ”، بعدما بلغنا أن المرض قد اشتد عليه:
لم نتمكن من زيارته، لأنه ـ بكبره ـ رفض أن يستقبل أحداً وهو على سرير المرض.. وكان أبناؤه يتناوبون على الدخول خلسة فلا ينظر الى أي منهم ولا يتحدث إلا الى رفيقة عمره السيدة هدايت..
…ورحل “الاستاذ” مخلفاً مكتبة من أخطر المؤلفات التي تكاد تؤرخ لأكثر من ستين سنة من تاريخ مصر والمنطقة العربية وجوارها، بقياداتها التاريخية، من مصدق الثورة الإيرانية في بداية الخمسينات، الى جمال عبد الناصر الذي كان الأقرب اليه والى وثائقه السرية والتي أفاد منها في عدد من المؤلفات التي تكاد تؤرخ لأخطر مرحلة من عمر هذه المنطقة العربية.
وخسرنا أحد أبرز الكتاب السياسيين، صحافي القرن، محاور القادة الكبار (مونتغمري) من زعماء الدول، غرباً وشرقاً، والمفكرين والفلاسفة (جان بول سارتر) الذي استضافه في القاهرة الى جانب العديد من المبدعين المميزين.
كان “الأستاذ” الصحافة بمعناها الأشمل وقد اجتمعت في رجل، والمشارك في التعبير السياسي في الزمن الجميل كلسان لجمال عبد الناصر، يبلور أفكاره ويشرحها ويوصلها الى الناس بأسلوبه الأخاذ.
كما كان الناقد السياسي الأخطر لسياسة السادات التي مكنت اسرائيل من مصر، بلا قتال، عبر تنازلاته الخطيرة التي كادت تودي بالقضية الفلسطينية فضلاً عن أساءتها بل اضرارها العميق بكرامة مصر وشعبها وتسببت في تعميق الفقر والعوز وفقدان المكانة.
ولقد غادرنا “الاستاذ” قبل 22 شهراً في 17 شباط (فبراير) 2016 بعدما أنتج مكتبة كاملة تكاد تلخص تاريخ التحولات في هذه المنطقة من العالم خلال ثلثي قرن.
وكان بديهياً أن تقرر عائلته أن تخصص جوائز باسمه للمبدعين أو المميزين بين الصحافيين المصريين .. واختارت لجنة من كبار الكتاب والدبلوماسيين وأهل الصحافة، وشرفني بأن اختارتني ممثلاً للصحافة العربية خارج مصر..
ويوم السبت الماضي جددنا التحية “للأستاذ” في حفل إعلان نتائج المباراة.
عوض الله مصر والصحافة العربية استاذاً، صحافياً، كاتباً، باحثاً، مؤرخاً، ومحللاً عميقاً للأحداث والتطورات، ليس على المستوى العربي بل على المستوى الكوني، وهو الصحافي والمحلل والقارئ الممتاز للأحداث والشخصيات التي حفلت بها سنوات النصف الأخير من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين.
ولعل “صحافي القرن” قد اختار وقت رحيله مع انطفاء الصحافة الورقية فتقلص دورها حتى كاد ينعدم على يد هذا الجهاز الخطير بحجم الكف والذي يعطيك أكثر مما تحتاج من المعلومات عن الاحداث والدول والقادة ونجوم السينما والابتكارات الجديدة والخرائط والبد ع الجديدة ونجوم أشكال الفنون والجنون جميعاً.
المقابلة الاخيرة التي اجراها “الاستاذ” محمد حسنين هيكل مع لميس الحديدي على قناة “CBC”: