سألني جمال الغيطاني في لقائنا الثالث: هل عرفت القاهرة؟ أعرف أن لك ثروة من الأصدقاء هنا، وبينهم رجال فكر وأدباء كبار، فضلاً عن السياسيين الذين تلتقيهم لضرورات مهنتك.. لكنني أزعم أنهم لا يعرفون من القاهرة إلا قليلاً… أما أنا فأعرفها بالشبر. لقد تمثلت بأستاذنا نجيب محفوظ، الذي يحفظ القاهرة بمراحل تطور عمرانها، وباستذكار من بنى ومتى وأين وكيف ولماذا. وأعتز أنني تتلمذت عليه. كان يقول مستهجناً: كيف يكتب الروائي عن مدينة لا يعرفها، بإنسانها في مراحل تطوره، بمعمارها الذي يروي تاريخها ويعكس روح شعبها وقيمه وتقاليده.. وأمزجة حكامه الذين تعاقبوا على السلطة فحاولوا ترك بصماتهم في البلاد، بعنوان العاصمة…
كان يتحدث بحماسة، وفي موضوع يشغله فعلاً، وكنت أتابعه معجباً بهذا الجانب من شخصيته… توقف فجأة عن التدفق في التحليل وقال: أريد أن أرافقك يوماً كاملاً، نجول خلاله في أحياء هذه المدينة التي تعدّد بناؤوها، وتداخلت مراحل بنائها، فصارت مدناً عدة لكل منها طابعها الخاص. ولكل مدينة «أهلها» الذين يحفظونها باعتزاز مستذكرين مراحل بناء معالمها، وأبرزها المساجد بصيغتها القديمة حيث كان لمسجد الخليفة ـ السلطان مستشفى ملحق به، ومدرسة، وإيوان واسع لاستضافة كبار الزوار والوافدين.
صمت لحظة ونظر إليّ متسائلاً، ووافقت طبعاً فأضاف قائلاً بحسم: يمكننا أن نبدأ الآن… وسأتصل من هنا، من دار أخبار اليوم، لأرجئ بعض مواعيدي ثم ننطلق في رحلة اكتشاف القاهرة.
قصدنا معاً المؤسسة الصحافية الكبرى، دار الهلال، التي بناها جورجي زيدان (اللبناني) وورثَتُه من بعده في عاصمة المعز لدين الله الفاطمي لاصطحاب صديق، وعند البوابة التقينا واحداً من الأساتذة الكبار الذين تولوا رئاسة مجلس إدارة دار الهلال، أحمد بهاء الدين، فبادرني بالقول مبتسماً: هل دعاك جمال إلى جولة تعريف بالقاهرة؟ إنه أفضل دليل ثقافي.. ولو أن لدينا، هنا، المال الكافي لكلفته بأن يتفرغ لرواية تاريخ هذه المدينة التي تعدّد بناؤوها، حتى صارت مدناً عدة لكل منها طابعها الخاص، لكن أجملها، في تقدير جمال كما في تقديري، المدينة الفاطمية ومعها المدينة المملوكية..
انطلقنا إلى «سيدنا الحسين» في منطقة الأزهر، لنتخذه منطلقاً إلى عالم نجيب محفوظ كما خلّده في ثلاثيته «قصر الشوق» و «السكرية» و «بين القصرين». واندفع جمال الغيطاني يشرِّح الأمكنة بأبنيتها العتيقة ذات «المشربيات» الخشبية الأنيقة ـ تحدث بلغة المهندس المعماري قارئاً في الأبنية تاريخ أهلها وعاداتهم وتقاليدهم وطبيعة علاقتهم بالحكم القائم: ـ جيء بالحجارة من البعيد، بعضها من الصعيد وبعضها الآخر من منطقة الجيزة، وهي بعض ما تهدم في المنطقة المحيطة بالأهرامات. أما الأخشاب فقد استقدمت من مناطق مختلفة في أنحاء الوادي.. وكان البناؤون والنقاشون شركاء في النقاش مع المهندسين في حضور أصحاب القرار، وهكذا اندفعوا يعملون وكأنهم في مباراة حتى أبدعوا هذه القصور والتكايا والبيوت التي تحمل تاريخ الفن المعماري، في زمانهم.
كنا نمشي الهوينا، هو يتحدّث كمن يقرأ في كتاب مفتوح وأنا أقرأ ماضي قاهرة المعز في واجهات البيوت بقناطرها والمشربيات والشرفات الأنيقة التي تبرز أناقة القناطر التي تظللها السقوف الخشبية المنقوشة… وانتبهت إليه يقول: هذا «قصر الشوق»، وبعده في نهاية هذا الزقاق «السكرية». دقّق النظر واستعِدْ ما قرأت، لم يترك نجيب محفوظ نقشاً إلا واستذكره، لم يترك أصيصة ورد أو طيف صبية خلف الخشب المشبّك للنوافذ إلا واستحضرها في سردية توصيف المكان الذي يعطي أهله من طابعه فيتميّزون… أما أهل هذا الحي فقد جالسهم في مقهى الفيشاوي، وشرب معهم الشاي في دكاكينهم وسمع أخبارهم وحكاياتهم مع الحي.
صمت لحظة، ثم اندفع يقول بلهجة تنمّ عن الإعجاب: ابن الإيه محفوظ دَه، لم يترك حبة تراب إلا وذكرها في الروايات التي أرخّت لهذه الأحياء وأهلها.
انتبهتُ إلى أنني أعقد مقارنة ضمنية بين الغيطاني والجبرتي، المؤرخ الذي لم يترك يوماً أو حدثاً أو مكاناً في «المحروسة» إلا ووصفه بملامح أهله.
انتهت الجولة وقد تزوّدت برواية جمال الغيطاني لثلاثية نجيب محفوظ ببطلها الأول، المكان، قبل شخصياتها.
تعددت اللقاءات مع جمال الغيطاني الذي تدفق إنتاجاً وحيوية، متوسطاً إدارة «أخبار اليوم» للسماح له بإصدار مجلة ـ ملحق بعنوان «أخبار الأدب». وذات لقاء جلس يروي لي يومياته على الجبهة مع العدو الإسرائيلي في القناة وعبرها، وقد خدم مع كثير من زملائه، أدباء وفنانين، كضباط احتياط… وعاشوا في قلب النار. شاهدوا «العدو» عند الضفة الأخرى، في ارضهم: كنت أحس بجنوده يمشون على جسدي، يمتهنون كرامتي. لقد كانت تجربة فريدة في بابها وأتمنى لو أستطيع نقلها كما عشتها.
ثم كان أن التقينا في باريس، في العام 1985 وفي منزل الزميل والصديق الراحل علي الشوباشي وزوجته الممتلئة حماسة لعروبة مصر ماجدة الجندي.
وجدت نفسي أمام جمال غيطاني آخر. كانت دار نشر فرنسية قد أصدرت كتابه «الزين بركات» مترجَماً إلى الفرنسية، وبديهي أننا شاركناه سعادته بهذا الفتح في بلاد الفرنجة الذي يؤكد مكانته في دنيا الثقافة بعنوان الرواية.
بعد سنوات ستمنحه فرنسا وسام الاستحقاق في العلوم والآداب من رتبة فارس في العام 1987.
وفي لقاء باريس، التي ستتعدد زياراته لها وسيلقى من بعض دور نشرها ومن بعض كتابها التقدير والاهتمام، كان عظيم الحماسة لأن يعطي نتاجاً أفضل يؤكد له مكانته التي كسبت الآن «بُعداً دولياً»، تحدث عن مشاريع رواياته الجديدة. كان كمن ينتدب نفسه لراوية مرحلة كاملة من تاريخ مصر والمنطقة، بغير أن ينسى التذكير بأنه يكاد يكون الأصغر سناً بين أدباء العربية الذين اهتمت دار نشر فرنسية معروفة بإصدار روايته مترجَمة، تمهيداً لترجمة أعمال أخرى له.
بعد ذلك مُنِعتُ من دخول القاهرة، في زمن السادات، لفترة امتدت حتى العام 1988، لكن التواصل مع الغيطاني لم ينقطع.. ولو عبر «أخبار الأدب»، وعبر إهداءات من رواياته الجديدة التي أكدت مكانته فضلاً عن غزارته في الإنتاج.
أرّخ لنفسه ولعائلته في ثلاثية «التجليّات»، بين العام 1983 والعام 1986، وقد خصّص الجزء الأول لأبيه والجزء الثاني لوالدته أما الثالث فكان بعض سيرته الذاتية.
قال لي مرة: أغنى تجاربي كانت على «الجبهة». كنت قد خرجت من المعتقل حيث أمضيت ستة شهور مع عبد الرحمن الأبنودي ويحيى الطاهر عبدالله وسيد حجاب وصبري حافظ وصلاح عيسى بتهمة الانتماء إلى تنظيم ماركسي… وبعد الخروج من السجن ذهبت كمراسل حربي إلى الجبهة في القناة. إنها أيام مجيدة في زمن لا يُنسى.
كان جمال الغيطاني يعيش في سباق مع الوقت: «عندي فيض من الأفكار ومن مشاريع الروايات، ولا أدري إذا كان الزمن سيُمهلني لإنجازها جميعاً. يدهَمُني إحساس بأنني لن أعمّر طويلاً».
تجربة الحرب مع العدو الإسرائيلي أغنت نتاجه الأدبي فكتب سلسلة مقالات عنها بعنوان «المصريون والحرب، من صدمة يونيو إلى يقظة أكتوبر ـ 1974»، ثم «حراس البوابة الشرقية ـ دراسة سياسية 1975».
بعد ذلك التفت إلى من أعجب بهم وعاش معهم، فكتب «نجيب محفوظ يتذكّر» ثم «مصطفى أمين يتذكّر».
أما القاهرة التي عشق نيلها وترابها و «مدنها» العديدة القبطية، الفاطمية، والمملوكية، ثم قاهرة محمد علي فقد كتب عنها «ملامح القاهرة في ألف عام ـ حكايات من تراث القاهرة»، وبعدها «قاهريات ـ أسبلة القاهرة» وهي دراسة جيوغرافية وتاريخية.
ولقد صمت جمال الغيطاني بعد فترة مرض طالت حتى استنزفت طاقته على الصمود، وجاء الموت ليؤكد صحة تقديره للوقت: عليّ أن أنجز مشروعات عديدة في المهلة القصيرة المتبقية لي. ما زال عندي الكثير لأقوله…
وكثيراً ما داعب أصدقاءه متسائلاً: هل ستكتبون في رثائي مثل ما كنت سأكتبه عنكم لو رحلتم قبلي.
رحم الله هذا الأديب الذي ملأ حياته بالإنتاج وعاش مدنفاً بعشق مدينته ذات التاريخ العريق بأهلها الطيبين وإشعاعها الذي لا يخبو إلا لوقت قصير، ثم تستعيده بميادينها فتعود إلينا «محروسة» بتراث مبدعيها الذين لا يغيبون.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان