في الثالثة فجراً، أي قبيل بزوغ شمس الاول من تشرين الثاني 1980، دوى انفجار هائل في منطقة الحمراء، غير بعيد عن فندق البريستول، وقبيل الوصول إلى مبنى السارولا مستهدفاً مبنى جريدة “السفير” التي كنا بالكاد قد فرغنا من تأثيثها وتجهيزها بمطبعة “غوس” جديدة، هي حلم كل صحافي وأي صحافي.
اندفعنا، زوجتي وأنا، نحو مبنى “السفير” الذي لم يكن يبعد عن منزلي اكثر من خمسمائة متر، نتبين طريقنا في ضوء ألسنة اللهب الهائلة المتصاعدة من ذلك المبنى بالذات.. همست بحزن شديد: راحت المطبعة..
قصدنا الجهة الخلفية من المبنى حيث مدخل المطبعة فاستقبلتنا ألسنة اللهب وصراخ اطفال الجيران وذعر الاهالي، وكنت أغطي وجهي بيدي، خجلاً من أن يرى الناس دموعي عليهم وعلى “انجازي” الذي لا عوض عنه ولا بديل منه.
استقبلني احد جيران مدخل المطبعة، وشعر صدره الغزير يكاد يتجاوز “بروتيله”، قائلاً بلهجة ساخرة: الحق مش عليك يا استاذ.. الحق على هذه الغبية زوجتي التي رفضت أن ننتقل إلى مكان آخر، حتى نبقى جيران “السفير”.
أما حين بلغنا عتبة المطبعة فقد ضربتنا ألسنة النيران، ورأينا الكتلة الضخمة للمطبعة الجديدة وقد تفككت قطعاً كجثة فيل، والنار تتصاعد من داخلها كما من حولها، بما يجعل الدخول مستحيلاً..
عدت إلى البيت “مكسوراً”، حزيناً، من دون أن أفقد وعيي، وهكذا باشرت اتصالاتي بالمسؤولين لإبلاغهم بما حدث.. ولقد رد عليّ الراحل شفيق الوزان وكان قد تم تكليفه صباحاً بتشكيل الحكومة الجديدة فقال: انا آسف، عوض الله عليك، وليس لدي حرس او حتى سائق.. سأزورك مع الصباح، ولا إله الا الله!
لم يكن لدينا حول المبنى او فيه الا حارس مدني، او “ناطور”، وقد اختطفه المنفذون ثم اطلقوه لكي يبلغني الرسالة: هذه المرة المطبعة، اما في المرة الثانية فسيكون راسك هو الهدف..
بحثنا، فتشنا، دققنا، واستجوبنا الحارس مرات ومرات، فظلت “افادته” هي هي.. لكن بعض “الخيوط” التي تجمعت لدينا، اشارت إلى “أمن فتح” بالمسؤولية عن التفجير..
على هذا الاساس اتصلت بمكتب “الأخ ياسر عرفات” اطلب موعداً عاجلاً للقائه.
في الموعد المحدد ذهبت ومعي حوالي عشرين زميلاً من اسرة تحرير “السفير”، فاستقبلنا “الأخ ابو عمار” هاشاً باشاً، ثم سألنا عن اخبارنا.
قلت: سأكون صريحاً معك إلى اقصى حد يا أخ ابو عمار. لقد بدأت ثورتك مع رهط من رفاقك في الاردن، فذهبنا اليك هناك لنشد على يدك، مؤكدين اعتزازنا بهذه الثورة، بعد موات طويل… ثم اجبرتك الظروف على القدوم إلى لبنان فاحتضنا ثورتك، وهذا ابسط الواجب، ورحبنا بك، واعتبرنا أن وجودك بينا سيكون مؤقتاً، ثم نذهب معاً إلى فلسطين..
قال ابو عمار بلهجة الامتنان: كان هذا املنا بشعب لبنان العظيم..
عدت إلى الكلام قائلاً: فتحنا لك ابواب بيوتنا ومؤسساتنا. عملت نساؤنا والصبايا على غزل الصوف لصنع الكنزات للمقاتلين، هجر شبابنا احزابهم الوطنية والتقدمية لينضموا إلى “فتح” فيشاركوا في معركة تحرير فلسطين..
حياني ابو عمار، وقام ليقبلني فسألته أن يرجئ ذلك حتى أُتم كلامي.. فقلت: من ضربني يا أخ ابو عمار لبس وجهك ووجه اليّ اللكمات باسمك، وباسم فلسطين..
عندها انتبه ياسر عرفات إلى الغاية من زيارة هذا الوفد الكبير لمقره في الفاكهاني، فانتقل إلى حالة (يتقنها من الغضب والصراخ): ازاي، انا لا اسمح بهذا الاتهام، ولا اقبل به ابداً، ابداً، ابداً..
أكملت فقلت: هذا ما حصل، يا أخ ابو عمار، ولم نأتِ اليك الا بعدما حققنا ودققنا واستوثقنا من معلوماتنا..
انتهى اللقاء في جو صاخب… وعدنا إلى مكاتب “السفير” نحاول ترميم الخسائر التي لا مجال لتعويضها.
*****
بعد حوالي الشهرين أوفد اليَّ الأخ ابو عمار احد المقربين من مستشاريه يطلب الي الذهاب اليه وحدي في موعد حدده..
في الموعد المحدد، رافقنا الرسول إلى “المكتب الخاص للأخ القائد”، وهو عبارة عن غرفة صغيرة جداً (متران بمترين) في مبنى القيادة في الفاكهاني.
استقبلني ابو عمار باشتياق عظيم وقبلني مرة اولى عشر قبلات، ثم ابتعدت عنه قليلاً، وعاد يضمني ويقبلني وهو يبلغني شوقه وتقديره لي ولدور “السفير” في خدمة القضية..
شكرته منتظراً أن اعرف منه سبب استدعائي، لوحدي، ومضمون الرسالة التي يريد ابلاغي بها..
اقترب مني الأخ ابو عمار حتى لامس وجهه وجهي وهمس في اذني مباشرة: انا كلمت لك صدام.. وح جبلك تعويض!
انتصبت واقفاً وسط دهشة عرفات، وقلت بنبرة غضب يخالطها شيء من الحزن: شكراً اخ ابو عمار، لا اريد تعويضاً، لا منك ولا منه.. جهدك مشكور، ولي الله، وعليه العوض، ومنه العوض. هلا سمحت لي بالمغادرة؟
خرجت من مبنى القيادة في الفاكهاني، ولم اعد اليه ابداً!