ليس لدى أهل النظام العربي فائض من الوقت للاهتمام بالوقائع المرعبة التي نشرها موقع ويكيليكس عن حجم الكارثة التي تسبب بها الاحتلال الأميركي للعراق في السنوات السبع الماضية.
بل ان الطبقة السياسية التي جاءت بمعظمها على ظهر دبابات الاحتلال وحكمت أو تحكّمت بالعراقيين في ظله وتحت أعلامه لم تر في تلك الكارثة إلا ما يفيد بعضها في إدانة البعض الآخر أو في تشهير من هم خارج السلطة، في هذه اللحظة، بمن هم في سدتها، مع أن الكل شركاء إذ انهم تناوبوا عليها جميعاً.
فأما الإدارة الأميركية فلم تر في نشر الوثائق إلا ما يمكن أن يشكله من تهديد لقوات الاحتلال وللمتعاونين معها من العراقيين.
وبرغم أن الأرقام التقديرية التي نشرها موقع ويكيليكس موثقة لا تتجاوز المئة وتسعة آلاف قتيل، في حين أن الملفات السرية التي تحتفظ بها القيادة العسكرية الأميركية تشير إلى 285 ألف ضحية… في حين أن مجلة «ذي لانسيت» البريطانية ذكرت في تحقيقات موثقة أن عدد الضحايا، حتى العام 2006، كان قد بلغ 655 ألفاً.
وأما المواطنون العراقيون أنفسهم فيقدرون ـ نتيجة المعايشة والمعاينة ـ أعداد ضحاياهم بما يتجاوز المليون، هذا مع تجاوز حقيقة أن أكثر من أربعة ملايين عراقي قد ارتحلوا لينجوا بأرواحهم إلى سوريا والأردن وجهات أخرى كثيرة، وأنه لا يكاد يخلو بيت من بيوت العراقيين من أرملة أو أيتام أو «مختفين»، بما يجعل المآسي هي الجامع الوطني الأساسي بين أهل الرافدين.
وها ان أبناء الطبقة السياسية (المستجدة) يواصلون صراعهم على السلطة في البلاد التي كانت مزدهرة فدمرت، وكانت غنية فأفقرها النهب المنظم الذي باشره الطغيان ثم جاء الاحتلال يكمل المهمة «بكفاءة أعلى» وبطريقة «شرعية» إذ انه يستند الى قرار انتزع من مجلس الأمن الدولي (إياه)، سرعان ما اعترف به أهل النظام العربي بعضهم بالرغبة وبعضهم الآخر بذريعة الخضوع للشرعية الدولية وبعض ثالث بذريعة عجزه عن مقاومة تيار التأييد الجارف للخلاص من حكم الطغيان، مع التذكير بأن ذلك الحكم قام بأعظم مغامراته بتأييد من «الشرعية الدولية» مموهة، و«الشرعية العربية» متسترة..
هل من الضروري التذكير بالمذابح التي ارتكبتها مرتزقة «بلاك ووتر» والنهب المنظم الذي مارسه أول حاكم عسكري أميركي بول بريمر.
[ [ [
طبعاً ليس بين أهل النظام العربي، فضلاً عن السلطة التي تبحث عن رئيس في العراق، من هو مستعد لمساءلة الاحتلال الأميركي أو لمحاسبته عن جرائمه، وهي قد جرت أمام العالم أجمع، واستفزت كرامة الشعوب فأخرجتها في تظاهرات مليونية (حتى لا ننسى الحشود الغاضبة في لندن خاصة، وفي سائر العواصم الغربية)..
وليس بين الطامعين في اقتناص السلطة في بغداد من يجرؤ على محاسبة القتلة وأبطال المذابح الجماعية، سواء أكانوا جنود الاحتلال أو كانوا ينتمون إلى تنظيمات تدعمها إيران، كما يشير موقع ويكيليكس، أو إلى «القاعدة» التي تفرعت فصار لها «صحوات» و«مجلس عشائر» منظمة في فصائل مسلحة، كما أنبتت مواجهتها ميليشيات مسلحة ترد على القتل بالقتل.
الأخطر أن ليس بين هؤلاء جميعاً من يهتم ليس فقط بمستقبل العراق المنكوب ألف مرة، بل بسائر الأقطار العربية التي تتهددها مخاطر الفتنة، بعدما نجح الاحتلال ومن معه في حرف الصراع عن طبيعته كمقاومة وطنية ليصير اقتتالاً أهلياً بذريعة موقعه في السلطة و«حقه» في احتكار القرار، بينما القرار سيظل ـ حتى مدى زمني طويل ـ خارج العراق و«مكوناته» جميعاً، ريثما يتنبّه من يحرص على هذه الدولة العربية المؤثرة (ولو من أجل أن يحكمها) فيبادر إلى التوافق والتلاقي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
والمأساة عربية بامتياز، وهي شاملة وليست محصورة في العراق وحده، فألسنة نيران الفتنة (التي تقفز من فوق الاحتلال والطغيان) تطاول العراقيين في طوائفهم ومذاهبهم كي تكون المذبحة شاملة فتدمر البلاد وأهلها.
الضحية الأولى لكارثة العراق ـ بعد العراقيين ـ هي فلسطين، القضية والأرض والشعب..
وبعد فلسطين مباشرة ومعها يحتل لبنان المرتبة الثانية، في حين يتقاسم المراتب التالية سائر أقطار الجزيرة والخليج من الكويت وحتى اليمن..
لقد حوّل الاحتلال الأميركي، مفيداً من إرث الطغيان، العراق من رصيد عظيم للنضال الوطني العربي من أجل التحرر والتقدم والوحدة، إلى أرض خراب، وإلى مصدر للخطر على أشقائه الأقربين وعموم أهله.
وفي ما يعنينا في لبنان، ونحن قد اكتوينا مرات، من قبل، بنيران الحروب الأهلية، التي كانت في الغالب الأعم القناع السياسي للفتنة الطائفية، فإن علينا أن نتعظ ونتنبه إلى أن الصراع على السلطة سرعان ما يمكن تحويله إلى فتنة طائفية أو مذهبية لا تبقي ولا تذر، خصوصاً أن «الدول» حاضرة للنفخ فيها، قبل أن نتنبه إلى دور إسرائيل التي استثمرت هذا الغياب العربي، أو الانشغال بمكافحة الفتنة، في إعلان ذاتها «الدولة اليهودية الديموقراطية»… تمهيداً لأن تفرض نفسها الدولة الوحيدة في هذه المنطقة المغيبة شعوبها عن القرار بالطغيان المؤدي إلى الفتنة، أو بالاحتلال ولاّدة الفتنة.
وكما تعلقت آمال اللبنانيين بالتلاقي السوري ـ السعودي من أجل منع الفتنة في لبنان وإعادة الصراع إلى جذره السياسي، فإنهم يتمنون أن ينجح هذا التلاقي مجدداً في منع الفتنة في العراق، بإلزام الطبقة السياسية العراقية بتفاهم على تقاسم السلطة يحمي أرض الرافدين من خطر التقسيم… خصوصاً أن هذا التلاقي لا يتعرض لمحاسبة من استفاد من كوارث الماضي في العراق بقدر ما يهتم باستنقاذ الغد العراقي، ومعه الغد العربي، أو ما تبقى منه.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان