دخل اللبنانيون في غيبوبة اللعبة الانتخابية التي يعرفون ويعترفون بأنها ليست «حاسمة» في نتائجها المقررة سلفاً، وليست ـ بالتالي ـ «مصيرية»، ولا هي ستنتقل بهم من حال الانقسام والفرقة والتخوف من التصادم إلى هدأة البال في دوحة الاستقرار في ظل السلام الأهلي العتيد.
ومع اللبنانيين دخل الإخوة العرب إلى حومة اللعبة الانتخابية يتملّكهم شيء من الشعور بالغبطة وإن خالطها بعض الحسد والغيرة… وتكاد هذه «اللعبة» تأخذ بمجامع قلوبهم وتصادر اهتماماتهم، حتى أنهم لا يقبلون من «اللبناني»، الذي يفترض أن يكون «ناخباً»، نقده القاسي لمجرياتها والتقوّل عليها بأنها «طائفية» و«مذهبية» ومعادية للديموقراطية« و«لا يمكن أن تعبّر عن كرامة المواطن أو تعلقه بالحرية»!
إنهم يقيسونها بالمعايير السائدة بل المعتمدة رسمياً في أوطانهم فيجدونها «طريفة» و«مبهجة» وتعكس حيوية المجتمع، وتمثل مناسبة للاعتراف بـ«المواطن» عبر نفاقه والتزلف إليه بخطب الوعود والتعهد بالإصلاح وبناء الدولة على قواعد من المساواة والعدالة الاجتماعية إلخ…
ثم أن هؤلاء الإخوة العرب لا يستغربون أن تكون هذه الانتخابات النيابية في لبنان مدولة، وأن تجري الألسنة (الطويلة) بأحاديث عن «حصة» هذه الدولة (عربية أو أجنبية) أو تلك من كعكة الديموقراطية التوافقية…
ذلك أن الإخوة العرب قد سلموا ومنذ حين من الدهر أن كل ما يجري في «دولهم» ولها إنما هو نتيجة قرار دولي ما، وكذلك بالنسبة لما يتقرر في القمم العربية، فلماذا تراهم سيستغربون أن تكون الانتخابات النيابية في هذا الوطن الصغير المدول بوجوده وعلى امتداد تاريخه القصير ككيان سياسي، كعكة لكل دولة فيها نصيب، بحسب قدرتها على التأثير، بالمال أو بالدين أو بالطائفية، أو باستقطابها قوى وأحزاباً وشخصيات محلية غالباً ما تجد نفسها أكبر من دولتها، وبين حقوقها المشروعة أن تقيم «تحالفات» مع دول بحجم الولايات المتحدة الأميركية أو بغنى بعض أقطار الخليج العربي؟!
في البدء، كان لبنان ظاهرة دولية في قلب عالمه العربي…
وكان العرب يسلِّمون بأن ثمة توازناً دولياً يحكم علاقتهم مع لبنان الرسمي: إن كانوا أقوياء تم التسليم لهم بالموقع المقرر مع مراعاة «الدول» وحصصها، وإن كانوا ضعفاء صار «للدول» أن تقرر حصة الدولة العربية أو الدول العربية النافذة فيه…
وبهذا المعنى كانت الانتخابات النيابية في لبنان «دولية» دائماً، مع اختلاف عند توزيع الحصص بما يتناسب مع نفوذ كل من الدول المعنية…
أما الانتخابات الرئاسية فكانت «عالمية» دائماً يجتمع على التصويت فيها دول العالم أجمع، وإن ظلت بعض الأصوات مرجحة في حين أن واحداً منها هو المقرر…
من هنا إن «الناخب الدولي» في لبنان يتسلى بتصريحات الزعماء والقادة وأقطاب اللعبة السياسية، ويتفكه بوعودهم الانتخابية، ويتندر بتهديدات بعضهم البعض الآخر، ثم يقهقه ضاحكاً حين يسمع بعضهم يتحدث عن المعركة الفاصلة وتعديل الموازين أو يدّعي أنه إن هو لم يحز بالأكثرية المطلقة التي تجيز له أن ينفرد بالحكم فإنه سيقاطع ولن يشارك في أية حكومة ائتلافية.
لقد أبدع لبنان الدولي فأنتج الديموقراطية التوافقية،
وهكذا فإن لبنان السيد المستقل، موئل الحرية، هو بالمعنى السياسي حصيلة عملية حسابية معقدة، تتشابك فيها عمليات الطرح والضرب والقسمة حتى تخرج النتيجة الفريدة في بابها، فإذا اللوائح الانتحابية جميعاً تشتعل بالشعارات المدوية عن الحرية والسيادة والاستقلال وأزلية الكيان وسرمدية النظام وكل ما يلغي «الوطن» ومن ثم «المواطن».
الأحزاب طوائف ومذاهب، والطوائف والمذاهب دول، والدول مصالح، والديموقراطية حصيلة ضرب الطوائف بالمصالح وقسمتها على الدول…
وكل هذه العمليات الديموقراطية لا تحتاج إلى صناديق اقتراع وبرامج انتخابية ولوائح «بالروح بالدم»، ولوجستيات مكلفة، وبالدولار، بل إلى «تفاهمات» ـ وهي التعبير المهذب عن «الصفقات» التي تستثمر كل ما يهيج الشارع ويقسمه إلى شوارع متواجهة من أجل زيادة أعداد الكتل المتواجهة بالعواطف والغرائز وبحدة تنسيها كل ما يتصل بالمصلحة العامة أو حتى السلامة العامة.
لسوف يتسلى الإخوة العرب كثيراً وهم يتابعون «أخطر انتخابات في التاريخ»،
لكن اللبنانيين سيتابعون حياتهم في اليوم التالي لإعلان النتائج، وقد تنفسوا الصعداء لأن حرب الانتخابات قد مرت بمساوئ متوقعة يمكن احتمالها… في انتظار فرصة أخرى لممارسة الديموقراطية بعيداً عن الصناديق الانتخابية ذات الوهج الذهبي!
وأمام اللبنانيين، بعد، شهران من التسلية بالتوتر العالي!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان