بداية لا بد من أن أتوجه بالشكر والتقدير إلى هذه الدار، دار الطائف الدرزية الكريمة، التي تفتح أبوابها للتلاقي والحوار حول القضايا الوطنية التي تعني وتهم اللبنانيين جميعاً، مؤكدة الرحابة والرغبة في توحيد المختلفين في مواقفهم السياسية على قضية الحرية وحماية حقوقهم في التعبير عن آرائهم مهما تباينت.. فالحوار يعمق الوحدة ويحجم التباينات تحت سقف المصلحة الوطنية، وهي الهدف والمقصد والغاية.
ومن البديهي أن يكون الشكر موصولاً لرابطة العمل الاجتماعي، الذي تجمعني صداقة وطيدة مع العديد من اركانها واعضائها، من سبقنا إلى رحاب الله ومن ما زال يكد ويجتهد على طريق بناء الغد الافضل.
أيها الاصدقاء،
شكراً لأنكم ساعدتموني على الخروج عن صمتي، كصحافي، بعد ايقاف “السفير” عن الصدور، وهي في عزّ تألقها، “صوت الذين لا صوت لهم” بينما الناس، في لبنان، كما في الوطن العربي كله بأمس الحاجة اليها، كما إلى سائر زميلاتها مختلفة الرأي والموقف، تعبيراً عن الايمان بالحرية ومزيد من النور لتبين الطريق في عتمة الجاهلية التي يُراد فرضها علينا مع نهايات الربع الاول من القرن الواحد والعشرين.
لقد عملنا في “السفير” طيلة أربع واربعين سنة بجد واخلاص وكفاءة ومهنية عالية والتزام ثابت بقضايا امتنا العربية وهموم انسانها، في لبنان بداية واساساً، ثم في مختلف انحاء الوطن العربي.
وأعتز، بلا مباهاة او تبجح، بأنني قد حرصت، خلال ممارسة المهنة التي أعتز بانتمائي اليها، الصحافة، أن ابقى في موقع المحاور، مع احتفاظي بموقفي السياسي.. وهكذا استطعت أن التقي فأحاور واناقش الملوك والرؤساء وامراء النفط والغاز، والمفكرين وكبار المبدعين العرب، رواية وشعراً وقصة وتأريخاً وترجمة في معظم ارجاء الوطن العربي، من يمَنهِ الذي كان سعيداً ويجري اليوم تدميره إلى أقصى المغرب:
لقد التقيت فحاورت الرؤساء العرب المتعاقبين على حكم سوريا حافظ الاسد ومن بعده بشار الاسد، والعراق صدام حسين، والمملكة العربية السعودية بشخص الملك خالد وولي عهده القوي الامير فهد ونحو ثلاثين اميراً من ابناء الاسرة الحاكمة بينهم الامراء عبدالله ومعه عبد العزيز التويجري، وسلطان ونايف وسطام وطلال الخ.. ودولة الامارات بشخص الشيخ زايد، وقطر بشخص الامير الجد ثم الوالد (الذي خلعه) قبل أن يتنازل حمد لابنه الشيخ تميم، والكويت بأشخاص امرائها من عبدالله السالم إلى صباح الاحمد مروراً بجابر الاحمد، والجزائر بشخص الرئيس الاول في تاريخ استقلالها احمد بن بله، ثم هواري بومدين والشاذلي بن جديد وبوتفليقة وصولاً إلى ليبيا معمر القذافي الذي حكمها دهراً ثم غادر مقتولاً..
أما في لبنان فلقد عرفت من الرؤساء والقادة، وما أكثرهم، اكثر مما يجب يمينا ويمينا اكثر تطرفاً ويساراً اكثر تساهلاً فضلاً عن أهل الوسط واصحاب المواقف التي تتغير .. مع الطقس.
أيها الاصدقاء،
لعلنا، في “السفير” قد عرفنا أكثر مما يجب فحق علينا العقاب: مُنعت “السفير” من دخول الدول العربية، وأوقفت الاشتراكات التي تعقدها الدول روتينياً، وحوربنا في سوق الاعلان،
ولقد صمدنا ما أمكننا الصمود في زمن المتغيرات، لا سيما في مجال التواصل الاجتماعي..
وأرجو المعذرة للإطالة في سرد نتف من تاريخ “السفير”، مع أنني ارى ذلك مدخلاً شرعياً وطبيعياً للحديث في موضوع هذه الندوة:
في الفترة الاخيرة ضجت العواصم العربية بأخبار أزمة الوجود التي تعيشها الصحافة في لبنان، التي وإن اتخذت من “السفير” عنواناً لها، إلا أنها لا تستثني سائر الصحف الخاصة، أي غير الحكومية، التي تعاني مخاطر الاختناق في ظل تراجع الدخل الإعلاني وانخفاض التوزيع لأسباب متعددة، يختلط فيها “السياسي” بـ”التجاري”، مع المنافسة غير المتكافئة مع وسائل التواصل الاجتماعي.
ولقد ربط كثيرون بين رحيل صحافي القرن محمد حسنين هيكل وبين شحوب دور الصحافة العربية، ربما لمكانته الاستثنائية كأستاذ كبير لعب دور المجدد والمحدث في المؤسسات الإعلامية، كما في أساليب الكتابة واستدراج كبار الأدباء والمثقفين إلى أفيائها.
ثمة إجماع على أن الصحافة اللبنانية، بدءاً من الستينيات من القرن الماضي، قد تقدمت ـ مهنياً وسياسياً ـ لتتصدر صحافة العرب، مع تميز عن الصحافة المصرية بأنها ليست مملوكة من الدولة أو عبر “الاتحاد الاشتراكي” أو من ورثه من المؤسسات الحكومية في مصر.
وفي حين تّم تأميم الصحافة في كل من مصر وسوريا والعراق وليبيا، لتتحول جميعاً إلى جهاز إعلامي حكومي، ظلت الصحف في لبنان مؤسسات خاصة، وإن تحول بعضها إلى شركات خاصة. أما في السعودية وسائر أقطار الخليج، فالصحف حكومية التوجه والالتزام، كائنا من كان المالك.
في أي حال، فإن النذر توحي بأن الصحف في لبنان على وشك مغادرة الساحة، لا سيما وقد انقلب الصراع السياسي بين الأنظمة العربية إلى حروب بالسلاح، وكان لتلك الأنظمة أو الأهم منها مساهمات في “دعم” مؤسسات صحافية معينة لتواجه مؤسسات أخرى تساعدها أنظمة مخاصمة: في البداية، الهاشميون في العراق في مواجهة السعودية، ثم الطرفان معاً في مواجهة النظام الناصري، قبل أن تنضم إلى الحلبة بعض إمارات الخليج التي تدفق فيها النفط والغاز متأخراً عن المملكة المذهبة.
أما وقد غادر الصراع بين الأنظمة العربية المجالس السياسية متحولاً إلى الحروب المباشرة، أو رعاية هذا النظام أو ذاك لمؤسسات صحافية محددة لكي تخوض معه وإلى جانبه، وأحياناً بالنيابة عنه معاركه ضد الآخرين، فقد تناقص دعم “إعلام الخارج”، في حين وجهت مبالغ خرافية لدعم قوى معارِضة لهذا النظام أو ذاك بالسلاح… أليس “السيف أصدق إنباء من الكلام”؟
يمكن هنا الإشارة، ومن باب التذكير بالمنسي من الوقائع، أن العديد من الصحف اللبنانية قد “هاجر” أو “طُلبت منه الهجرة” ـ أو ربما فرضت عليه أو زينت له فرص النجاح والتأثير والإفادة من هذا التغرب لاستكمال “معارك” كانت مفتوحة، لاحقاً بين هذا النظام وذاك، انطلاقاً من تصادم المواقف حول القضية الفلسطينية ومشاريع الصلح مع العدو الإسرائيلي.
بالانتقال إلى الوضع الراهن، يمكن تسجيل بعض الملاحظات المهمة قبل الدخول في التفاصيل:
أولاً ـ لقد اندثر الصراع السياسي بالمبادئ والأفكار، والمصالح القومية والوطنية، بين الأنظمة القائمة حالياً في معظم أرجاء الوطن العربي، بل يمكن القول، من دون خشية من الانزلاق إلى الأحكام المطلقة، إن “السياسة” في الوطن العربي قد اندثرت أو تكاد تندثر.
لقد اختفت الأحزاب وسائر أشكال التنظيم السياسي في المشرق كما في المغرب، ولحقت بها النقابات والاتحادات المهنية، بدءاً بالعمال وانتهاء بالمنظمات الطلابية.
لبنان الذي كان “الشارع” فيه يعبر ـ مباشرة أو بالواسطة ـ عن الحراك الشعبي العربي بتنظيماته وأحزابه السياسية، لا سيما منها حاملة الشعارات القومية: “البعث” و”حركة القوميين العرب”.
وإذا كانت الانتفاضات الشعبية التي أسقطت عليها تسمية “الربيع العربي” قد ملأت الميادين بالهتاف للثورة كطريق اجباري للتغيير وإخراج الشارع العربي من حال الموات التي فرضتها عليه الأنظمة القمعية واستطالت دهراً، فان هذه الانتفاضات الرائعة كانت بلا “رأس” وبلا “حزب” أو “تنظيم” قائد، بل بلا قيادة من أي نوع، وإن هي جمعت ملايين الغاضبين والممتلئين بالعزم والإرادة على التغيير. وهكذا أمكن لـ”النظام العربي” أن يواجهها، وان يشتت جموعها الغاضبة.. ويعيدها الى قفص الفقر واطاعة أولي الامر.
وبين أسباب هذه “النكسة” أن الأنظمة النفطية، قد بادرت إلى هجوم دفاعي تمثل في دعم الأنظمة الجديدة المستولَدة قيصرياً، كبديل عن التغيير الفعلي المطموح إليه… هكذا أغدقت المساعدات والقروض بالمليارات، وهي دائماً مشروطة، على هذه الأنظمة ، بإفشال عملية التغيير المطموح إليه، فأنعشتها، مؤقتاً، وبما يمكنها من مخادعة الحراك الشعبي وإشغاله بوهج الذهب.
“أمر اليوم” الذي تحاول تنفيذه الأنظمة المذهبة: التغيير ممنوع! حتى لو أدى تنفيذ هذا الأمر إلى إغراق البلاد العربية، التي انتفضت جماهيرها منذرة بالثورة، في مستنقع من الحروب الأهلية، غالباً بشعار طائفي أو بمطالب مذهبية أو حتى عرقية.
ولتنفيذ هذا الأمر بنجاح، لا بد من تغييب بيروت، بميادينها وحيوية شعبها الذي عاش أنماطا من حرية الرأي والحركة قد لا تكون مثالية ولكنها “معدية”، والأهم: بأجهزة الإعلام فيها، مكتوباً ومرئياً.
هكذا تغرق أقطار عربية بدماء أهلها، بعنوان اليمن ومعها العراق وسوريا وليبيا، وتغرق عموم المنطقة العربية بالصمت، فتغيب الأصوات التي تعبر عن شوق الإنسان العربي إلى الحرية والتقدم والكفاية والعدل.
وقد لا تكون الصحافة اللبنانية مؤهلة للعب دور حامي الثورات، ولكنها كانت، بفوضاها وتعدد منابرها، تعبر عن مطلب بل عن حق المعرفة بما يجري في حاضرنا وما يدبر لمستقبلنا.
لهذا تعيش الصحافة في لبنان في خضم معركة الدفاع عن الوجود، باعتبارها الشاهد العربي الأخير على ما يدبر لهذه الأمة المجيدة.
أيها الاخوة الاخوات،
آسف إن كانت رنة الحزن قد طغت على كلماتي، مع انني قد نجحت في تجاوز أزمتي الشخصية، ومعي زملائي في “السفير”.. ولكنه واقع مر أن نتصور عالمنا العربي خاصة، بلا صحافة، وبالتحديد صحافة مكتوبة.
ومع تقديري للعلم والتقدم واختلاف العصر، فإنني ما زلت اعتبر الكلمة المكتوبة مصباحاً يضيء بما تحمله من مضامين فكرية وثقافية وعلمية وما تعكسه من الصراع السياسي حول صورة الغد الافضل.
لعلها تهيؤات شيخ أفنى عمره مع الكلمة المكتوبة، قارئاً ثم كاتباً، محققاً ومحاوراً وباحثا عن الحقيقة.. لكنني مرتاح الى انني لم اوفر جهداً او قرشاً في خدمة ما أؤمن به عبر هذه المهنة التي تشرفت بان اعطيها عمري: الصحافة.
ويبقى ان اشكر منظمي هذه الندوة من فرسان رابطة العمل الاجتماعي.. وهذا الجمهور الكريم الذي صبر على مطالعتي الطويلة.
كلمة القيت في ندوة لرابطة العمل الاجتماعي في دار الطائفة الدرزية، الجمعة 24 تشرين الثاني 2017