تعيش الصحافة العربية، عموما، أزمة حادة تتهددها فى وجودها، المقصود بالطبع، الصحف السياسية، التى كانت توزع، بمجموعها آلافا مؤلفة من نسخها يوم كانت السوق العربية مفتوحة أمامها، بشكل عام، إلا حيث الأنظمة تخاف الكلمة فتمنع انتشارها وكأنها أداة تخريب أو إنذار بانقلاب واقع لا محالة.
وفى الستينيات وحتى أواسط السبعينيات كانت جريدة «الأهرام» المصرية على سبيل المثال تبيع فى الأسواق العربية، خارج مصر، آلاف النسخ يوميا، فى حين كان «أهرام الجمعة» يبيع عشرات آلاف النسخ ويتداوله المهتمون بالسياسة وكذلك المهـتمون بالثقافة، فى العديد من الأقطار العربية، وتصبح المقالات التى يحملها محورا للنقاش السياسى والحوار الثقافى والجدل… لأن «الشارع» كان مسيسا، يهتم للأفكار الجديدة، ولا يسلم بالمطلقات، ويعيش حالة من التشوق إلى التغيير، ويرى فى الصحف منابر مفتوحة للحوار، ومنارات بما تحمله من آراء ومحاورات وطروحات قابلة للنقاش.
لقد كانت بيروت ولادة صحف، فى تلك المرحلة الخصبة، وكل صحيفة تعكس آراء أحزاب أو أنظمة أو جهات سياسية معنية بهذا الصراع الفكرى ــ السياسى وآفاقه المتصلة بضرورة التغيير، والجدل المفتوح بين الوطنية والقومية، بين الاشتراكية والرأسمالية، المجتمع والحركات والتنظيمات الدينية (الإخوان بشكل خاص) وهل هى تخدم ــ فى مؤداها الأخير ــ التقدم أو التعصب والجمود الفكرى وحق الناس فى التغيير لحساب الطبقة الحاكمة والمنتفعين بها ومنها؟.
***
كان «المواطن» يتقدم ليثبت وجوده كصاحب رأى، وصاحب موقف، عنده ما يؤمن به: حق وطنه فى الحرية والتقدم والاستقلال، وطموحه إلى رابطة وحدوية ــ بهذه النسبة أو تلك ــ تشده إلى إخوته فى «الوطن العربى الكبير».. خصوصا وقد نبهته مأساة الاحتلال الاستيطانى لفلسطين وإقامة الكيان الإسرائيلى فوقها وتشريد الشعب الفلسطينى فى أربع رياح الأرض العربية، إلى أن كياناته هشة التكوين مهددة دائما من داخلها بالصراعات السياسية على السلطة التى قد تتخذ من الدين أو الطائفة ذريعة للهيمنة ولو حتى بتقسيم الكيان على قاعدة طائفية أو مذهبية.. ثمّ إن الاستعمار لما يترك بلاده وإن كان قد أجلى عسكره، لكن ركائز نفوذه باقية فى الاقتصاد والتعليم والإدارة، فضلا عن السياسة.
كانت أقطار المشرق خاصة، وسوريا والعراق ومعها لبنان، بعد مصر، قد شهدت ولادة أحزاب متباينة الشعار، وإن غلب الطابع الوحدوى على معظمها (هذا إذا ما استثنينا الأحزاب الشيوعية بوصفها أممية)..
ظهرت فى البداية جمعيات عدة، طابعها ثقافى ومضـمونها سياسى، أبرزها «العروة الوثقى»… ثمّ ظهر «الحزب السورى القومى الاجتماعى» فى أواسط الثلاثينيات يعمل لتوحيد سوريا الكبرى أو «الهلال الخصيب» ــ أى لبنان سوريا والأردن وفلسطين والعراق) (وحتى جزيرة قبرص) فى دولة واحدة. ثمّ ولد حزب البعث العربى فى دمشق بقيادة ميشال عفلق ومعه صلاح الدين البيطار، وانضم إليهما فى ما بعد أكرم الحورانى فصار الحزب اشتراكيا.. وغداة نكبة فلسطين ظهرت حركة القوميين العرب، وكان منطلقها الجامعة الأميركية فى بيروت ومعظم مؤسسيها فلسطينيين (الدكتور جورج حبش والدكتور وديع حداد، ومعهما الدكتور أحمد الخطيب من الكويت وهانى الهندى من سوريا وزملاء لهم من لبنان ومن العراق واليمن الخ..)
كانت قضية فلسطين هى جرس الإنذار: الأمة فى خطر، والحركة الصهيونية هى العدو الجديد الذى يهددها ويحظى بدعم الاستعمار القديم، من دون أن يفقد رعاية الاتحاد السوفيتى والمعسكر الاشتراكى.
كان رد الفعل المؤثر الأول فى حركة الضباط الأحرار فى مصر، فى 23 يوليو 1952.. وهى الحركة التى بدأت «مصرية» ثمّ سرعت الاعتداءات الإسرائيلية على مصر (1953، 1954)، ثمّ العدوان الثلاثى على مصر، والذى شاركت فيه بريطانيا وفرنسا مع إسرائيل فى أواخر صيف العام 1956، وبعد تأميم الشركة الأجنبية لقناة السويس، تحولها إلى منطلق لانتفاضة عربية شاملة ضد قوى الاستعمار القديم، وضد ركيزة الاستعمار الجديد فى المنطقة: إسرائيل.
هكذا ومن قبل حومة الصراع الوجودى حول هوية الأمة وحق دولها فى الاستقلال، ثمّ التوحد أو الاتحاد أو التكامل، ولدت أول دولة للوحدة فى التاريخ العربى الحديث: الجمهورية العربية المتحدة، من اندماج مصر وسوريا فى دولة واحدة، برئيس واحد وحكومة مركزية واحدة، وجيش واحد.
كان بديهيا أن يشتد ويعنف الصراع العربى العربى.. بين«الوحــدويين» و«الانفصاليين»، وبين«الرجعيين» و«التقدميين»، وأن تهتز عروش وتسقط حكومات.. وكان العرش الهاشمى فى العراق أول من سقط ( فى 14 يوليو ــ 1958) ثمّ سقط الرئيس كميل شمعون فى لبنان (وجاء الأسطول الأمريكى، لحماية الكيان الإسرائيلى، ولمحاولة وقف موجة التغيير التى كانت تهدد أنظمة أخرى فى المنطقة…).
***
عرفت الصحافة العربية، وكانت بيروت عاصمتها ــ بعد القاهرة ــ فى تلك الأثناء عصر ازدهارها الذهبى.. صدرت عشرات الصحف الجديدة، أو جددت بعض الصحف العتيقة إطارها وهيكلتها، وتحول الصراع السياسى إلى حلبة العقائد والأفكار والتيارات. وصارت الصحف جبهات متعارضة يتصارع ضمنها ومن خلالها مختلف الأنظمة الملكية (السعودية والهاشمية) والجمهوريات ذات التوجهات المختلفة (دولة الوحدة وعراق عبدالكريم قاسم).. ومن خلفها الصراع التقليدى بين الغرب الأمريكى الآن بالمطلق، والاتحاد السوفيتى بقيادة خروشوف.
.. ولسوف يستمر الصراع ويعنف بعد هزيمة 1976.. وستدخل دول النفط العربية حومة الصراع فتنشئ أو ترعى بعض الصحف فى بيروت بوصفها المركز الإعلامى الذى يحتمل ويوصل الصوت وضده فى السياسة والاجتماع.
ويرحل جمال عبدالناصر مبكرا فى زلزال يصدع الأرض العربية والجماهير والقيم والمبادئ والأفكار.. وينشط خصومه فى «الداخل» و «الخارج». وتنشأ «حروب الردة»، على العروبة والمصالح والقيم المشتركة.. وتخرج مصر من الصراع العربى ــ الإسرائيلى بمعاهدة كامب ديفيد بعد «الزيارة» ــ السابقة التى خلخلت أركان الصراع العربى مع العدو الإسرائيلى. ويتفرق الصف العربى أشتاتا، وتشجر الخلافات السياسية التى سرعان ما تتحول إلى مؤامرات وإنهاء للمعارضات الداخلية.. وتغيب العروبة بل تغتال فى خضم حروب الأنظمة، ويسود الانحراف وتعود التبعية عبر قوات الفصل أو قوات الإنقاذ لهذا النظام العربى أو ذاك.. ويهرب أغنياء النفط من العرب بثرواتهم من إخوتهم الفقراء، ويقفلون أبواب بلادهم المذهبة أمامهم وهى المفتوحة لكل الأجانب بمن فيهم الإسرائيليون.
***
صارت الدنيا غير الدنيا.. وتهاوت العقائد والأفكار، واحتدم البحث عن الجوامع الجديدة التى يمكنها أن تعيد الروح إلى الأمة.
ثمّ جاءت المبتكرات الجديدة فى دنيا التواصل والإعلام، وساد الكومبيوتر ومشتقاته وصولا إلى الهواتف التى تختزن كنوز المعلومات، ماضيا حاضرا..
لكن الجوهر يتصل بأن «القضية» قد فقدت جمهورها، الذى حكمته أنظمة الطغيان والبطش والجهل فمنعت اجتماعه، وأقفلت عليه دنياه فإذا كل «دولة قفص يمنع دخول الهواء إليه».
ومن الطبيعى أن تضعف الصحافة.. فالجريدة مخلوق سياسى ــ اجتماعى، فإذا ما تم القضاء على السياسة، وصار المجتمع رهينة النظام الحاكم لا يسمع ولا يشاهد إلا ما يسمح فيه الرقيب.. فمن أين تأتى الكلمة الحرة والفكرة البكر؟.
لكن هذه مرحلة عارضة، سوف يكون لها ردود فعل مضادة لأغراضها فى تعمية المجتمعات وتسييد الجهل وتعميم الفردية…
ولسوف تنهض الصحافة، مرة أخرى، باعتبارها ضرورة سياسية وثقافية واجتماعية، عنوانا لنهضة الشعب وثقافته وتقدمه ومنابر لمطالبه وتعبيرا عن عشقه للحياة.. والغد الأفضل.
ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق