غاب الوهج عن القضية التي كانت مقدسة فغدت مجرد مسألة سياسية من الدرجة الثانية او الثالثة، ولم تعد اخبار قيادتها تعني جمهورها العريض.
صار اللقاء بين ما كانته “فتح” كحركة تحرير ثورية و”حماس” كمحاولة لتجديد الثورة من موقع الاخوان المسلمين، الذي أنبت فتح في بداياتها ثم غادرته او حاولت ان تغادره بعدما التفت حولها جماهير المؤمنين بتحرير فلسطين، وبالقوة …صار ذلك اللقاء خبراً، مجرد خبر عن لقاء تنظيمين فلسطينيين مهددين بان يصيرا من الماضي.
لقد استهلكت المناورات السياسية، والتحالفات العشوائية، التنظيم الأول الذي كان بشارة بتجدد الحركة الثورية الفلسطينية امتداداً لثورة 1936، وكذلك التنظيم الثاني الذي حاول اعادة الاعتبار الى “جماعة الاخوان المسلمين” بعدما غادرتها فتح لأسباب تتصل بالتطور الطبيعي للحركة التي انبثقت بالأصل من هذه الجماعة ثم جرفتها الاحداث بعيداً عنها دون ان يقطع بعض قيادييها صلة الرحم معها.
وإذا كانت “السلطة التي لا سلطة لها” قد استهلكت فتح كتنظيم ثوري وحولتها الى “إدارة محلية” في خدمة المحتل، ولو على ارض فلسطين وليس من خارجها، فان ذلك كان ـ على الأرجح ـ بين اهداف العدو الإسرائيلي من السماح لقيادة الثورة وعسكرها بدخول الأرض المحتلة وتولي السلطة بإشرافها وتحت اداراتها وبرقابة صارمة لسلوكها.
بالمقابل فان “سلطة حماس” التي قامت عبر التمرد على قيادة منظمة التحرير واستقلت بقطاع غزة الخالي من عسكر الاحتلال وان كان يحاصره من الجهات الأربع، قد غرقت في موجبات “السلطة” التي تولتها بالرغبة وليس بالاضطرار، خصوصاً وقد وجدت من يغريها بانه سيكون الى جانبها وسيتكفل بنفقات سلطتها وان قاطعتها رام الله. وكانت حكومة قطر من تولى التحريض والتمويل بتزكية من تنظيم الاخوان المسلمين، في مصر على وجه الخصوص، وفي تركيا حيث كانت له الكلمة العليا في القرار.
على هذا فقد وقع نوع من القطيعة بين المنظمات “القديمة” واخبار الجهاد في فلسطين الذي تصدى للقيام بموجباته الفتيات والفتية من أبناء الأرض الذين لم ينقص ايمانهم بأرضهم وحقوقهم، فاندفعوا يهاجمون جنود الاحتلال والمستوطنين في أراضي “السلطة” او في الكيان الإسرائيلي بأي سلاح تطاله أيديهم: سكاكين المطبخ، الخناجر، المسدسات أحيانا، والرشاشات نادراً.
بالمقابل انسحبت، من ميدان المواجهة ـ والى حد كبير ـ المنظمات ذات التاريخ النضالي (فتح، الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية)، ولم يتبق في الميدان الا بعض المنظمات ذات المنطلق الإسلامي، ولو بين الحين والآخر.
من هنا فان اللقاء المتجدد بين سلطتي فتح وحماس، (بعد شفاعات ووساطات دخلت على خطوطها مصر التي كانت تقاطع حماس وغزه، وكذلك دولة الامارات العربية المتحدة ممثلة بالمغامر متعدد الارتباطات ومنفوخ الحقائب بالدولارات محمد دحلان) قد تم بيسر وسهولة، بعدما أدت “حماس” فروض الطاعة للقاهرة (بضمانة دحلان وذهبه).
وهكذا شهد العالم “تظاهرة” دخول “السلطة” ممثلة برئيس حكومتها رامي الحمدالله الى غزة دخول الفاتحين، وسط جو من العناق والقبلات وبعض دموع الفرح “بين الشتيتين” اللذين جمعهما الله “بعدما كانا يظنان ان لا يتلاقيا”..
لكن تظاهرة القبول او التسليم بحكومة واحدة للضفة وغزة لم تنه الخلافات المزمنة ومتعددة الأسباب (فكرياً وتنظيميا، قبل ان نصل الى المال ومصادره ووجوه انفاقه..)
بين المؤشرات، ان “حماس” أرجأت حل مؤسساتها البديلة بذريعة “تمكين السلطة” بعد دراسة الوضع في غزة والاعداد للسيطرة من دون التصادم مع “فتح” وسلطتها السابقة (في انتظار دمج السلطتين)..
وبين المؤشرات كذلك ان حماس قد أرسلت الأسبوع الماضي، وفداً كبيراً برئاسة القيادي فيها يحيى السنوار ومعه عدد من رجالاتها المعروفين بينهم الممثل السابق لحماس في لبنان اسامة حمدان.
ومعروف ان العلاقة بين السلطة في رام الله (أي فتح اساسا) والقيادة الايرانية ليست على ما يرام، بل هي تكاد تكون مجمدة حتى اشعار آخر..
معروف ايضاً أن القاهرة التي اعادت ما يشبه ممثليتها في غزة، عبر مجموعة من كبار الضباط في المخابرات، ممن يعرفون غزه و”سلطتها” ويستريبون في علاقة بعض قيادييها من الاخوان بالعصابات الارهابية التي لا تفتأ تشن الهجمات على العناصر المحدودة من الجيش المصري التي تسمح اسرائيل بدخولها صحراء سيناء، ولو بذريعة القضاء على عصابات الارهاب، ومعظمها أن لم تكن جميعها ترفع الشعار الاسلامي..
بالمقابل، وربما بقصد الايضاح وطمأنة العرش الهاشمي قام رئيس السلطة محمود عباس بزيارة إلى عمان التقى خلالها الملك عبدالله بن الحسين “في جولة افق حول التطورات العربية”.
هكذا اذن: المصالحة بين فتح وحماس في القاهرة، برعايتها معززة بتأييد من دولة الامارات (ممثلة بالشيخ محمد بن زايد)، وبقبول فاتر من دول الخليج (والسعودية بالذات)..
لقد صارت احوال السلطة الفلسطينية (حتى بعد المصالحة) اشبه بأحوال الدول العربية العاجزة عن الحرب، والتي تخضع (باسم السلام) للابتزاز الاسرائيلي المفتوح ممثلاً بالمعاهدات المجحفة واتفاقات الاذعان التي تفرضها سلطات الاحتلال الاسرائيلي (بين الامثلة اتفاق تصدير الغاز إلى مصر والاردن وسائر اتفاقات التبادل التجاري..)
لقد فقدت حماس اهم مناصريها بعد سقوط الاخوان المسلمين في مصر، وانشغال اخوان تركيا ممثلين بسلطة السلطان اردوغان بهمومهم الذاتية بعنوان حركة الاعتراض الواسعة التي دفعتها او استدرجتها السلطة في انقره إلى مشروع انقلابي كان فشله محتماً، لان المخابرات التركية كانت تعرف الامر قبل مباشرة التنفيذ ثم انقضت عليه و”طلائعه” المكشوفة في الشوارع الرئيسية وبينما الساهرون والسواح يملأون الساحات والميادين ويشهدون ما يمكن اعتباره “مناورة بالذخيرة الحية” انتهت بالقبض على “طلائع التنفيذ” ومطاردة كل مشتبه به، سواء كان في القوات المسلحة او الشرطة او القضاء او التعليم، وكل من تصادف وجوده في الشارع عند “الساعة الصفر” المزعومة.
مع ذلك، فقد استقبل الفلسطينيون هذه المصالحة (التي ليست الأولى) بترحيب يظلله الخوف من انتكاسة جديدة بين التنظيمين اللذين يتقاسمان السلطة في كل من الضفة الغربية وغزه، تحت عيون العدو الاسرائيلي المفتوحة ارضاً وبحراً وجواً، بينما مخابراته تلاحق انفاس الغاضبين وتصرع بالرصاص كل من تشتبه بأنه يعد او يخطط او يفكر او يتمنى او يحلم بعملية فدائية ضد جنود الاحتلال.
للمناسبة: أن جنود الاحتلال الاسرائيلي يرعون، على مدار الساعة، استيلاد وحوش المستوطنين على المزيد من الاراضي التي اقر العدو بتبعيتها للسلطة، من اجل بناء مستوطنات جديدة على حساب اهل الارض الذين كانوا اصحابها منذ بداية التاريخ وسيبقون اصحابها حتى قيام الساعة..
تنشر بالتزامن مع السفير العربي