احترف اللبنانيون العيش في قلب العاصفة منذ اختراع كيانهم الفريد..
دولة بلا مقومات فعلية للحياة، تعيش اسطورة التفرد: هي مصيف اهل الثراء بلا تعب من اهل النفط، فاذا لم يأتوا ذهب “شعبها” ليعمل بالأجر لديهم، وتقديم الخدمات الخاصة والعامة لمن يرغب..
ولقد حدث أن عاد بعض هؤلاء رؤساء للحكومة ووزراء ونواباً، اما السفراء في اقطار النفط فقد استغنوا عن “الخدمة العامة” وعاشوا من ذكرياتهم ومذكراتهم وعليها..
أما الطبقة السياسية في بلاد الارز فيكاد اقطابها لا يتغيرون ولا يتبدلون الا بالوفاة، وكلما غاب منهم “كبير” اقتتل الورثة على المنصب حتى ينتصر أقواهم فيحتكره، ثم يورثه لأبنائه..
الانتخابات اقرب إلى التعيين، سواء الرئاسية، او رئاسة الحكومة، او رئاسة المجلس (امد الله في عمر شاغلها الوحيد..) فأما النيابة فوراثية يأخذها اكبر الابناء عن ابيه، فاذا تعذر ناب عنه اخوه الاصغر..
وهكذا يستولد المجلس بانتخابات مضبوطة: الاكثرية موالية، والاقلية تنتظر تشكيل الحكومة لتنقسم وتتفرق بين “المراجع”.
تبقى “الحكومة” مشكلة: فالطوائف كائنات حية، تمنع النمو الطبيعي للحياة السياسية، وتفرض زعاماتها “مرجعيات”.. ولكل “مرجعية” داخلية مصدر دعم سياسي او مالي في الخارج القريب.. او في البعيد الذي جعلته وسائط التواصل قريباً..
بمرور الايام تتبدل المرجعيات، خصوصاً القريبة منها، ومن ثم البعيدة التي تقربها الطائرات الاسرع من الصوت..
هكذا صار للسعودية، مثلاً، صوت مرجح، وتراجعت قطر التي تبوأت الصدارة، ذات يوم، بينما حافظت الكويت على موقعها التسووي، في حين انشغلت القاهرة بهمومها الثقيلة فغابت عن مركز التأثير، وان احتفظت بحق الفيتو..
سادت واشنطن في ربع القرن الأخير، حتى باتت كلمتها هي العليا، قبل أن تستعيد موسكو عافيتها مع الملاكم ـ لاعب الكرة الطائرة ـ السابح في الجليد فلاديمير بوتين، فتفرض نفسها على الاميركيين كشريك قوي، خصوصاً وانه بات صاحب مفتاح الحل والربط في شؤون المنطقة عموماً، بما في ذلك الصراع العربي ـ الاسرائيلي.
وهكذا تقاطر العرب، وبالذات عرب النفط إلى موسكو… ثم وجد اللبنانيون من اهل النظام انه لا بد من موسكو، ولو طال السفر، وهكذا تهافتوا عليها بذريعة النفط ليبحثوا في تشكيل الحكومة الجديدة التي يستعصي ولادتها على اطباء التوليد المحليين.
لا مشكلة، لدى اهل النظام، في تبديل مركز القرار: من قبل كانت باريس مع دمشق، ثم جاءت القاهرة بزخم جمال عبد الناصر فانتهت فرنسا وبريطانيا ـ عربيا ـ مع “العدوان الثلاثي” في العام 1956، وانفردت واشنطن وضمنها (اسرائيل) في تمثيل “الغرب”.
اليوم، وسوريا على وشك العودة إلى الميدان السياسي ودورها المؤثر في المنطقة عموماً، ولبنان خصوصاً، يعاني اهل السياسة من مشكلة الخيار: هل يعودون إلى دمشق؟ وهل هي تقبلهم إذا ما عادوا؟ وهل ستعاقبهم واشنطن ام تتسامح مع اضطرارهم إلى هذه العودة؟
.. ويحدثونك عن القرار المستقل: بعضهم بلهجة اهل الرياض، وبعضهم الآخر بلهجة ابي ظبي، وأقلية منهم بلهجة قطر، وأقل القليل بالجيم المصرية المعطشة، والباقي بالإنكليزية، وأقلية الاقلية بالفرنسية.
لكن الجميع يقفون عند عزف النشيد الوطني: كلنا للوطن…
.. أما الحكومة ففي انتظار “غودو” الذي يبحث عنه سعد الحريري في كل مكان فلا يجده، فيكتفي بشتم سوريا الذي استضافته وأكرمته في قصرها الجمهوري في حين احتجزته الرياض (مع مرافقيه) واهانته فلم يزد الا ولاء.