عبثاً نحاول إقناع أنفسنا (فكيف بأبنائنا؟!.) أننا «مواطنون» في «دولة» ذات «نظام» ما: لك أن تسميه «ديموقراطياً بالتوافق الطوائفي» أو «طوائفياً بالتوافق الدولي»… لكنك، ومهما بلغت من البراعة في ابتداع الصيغ المخففة من فرادته في الجمع بين المواصفات المتناقضة، سيظل هذا «النظام» مستعصياً على التوصيف. ويكون عليك أن تسلم، في نهاية البحث، بأن هذه الدولة المتهالكة التي «تؤوي» شعوباً شتى تتمتع بنظام يستعصي على الإصلاح، كما أنه أقوى من كل المحاولات التي جرت لإسقاطه أو استبداله بآخر له علاقة ما «برعاياه»
لنقلها صراحة: لسنا مواطنين! وليست «دولتنا» دولة!
إننا رعايا طوائف يعيشون تحت حماية ما في كنف رعاية دولية، قد تتبدل هوية الرعاة، لكنها «دولية» دائماً، وخاضعة للتوازنات القائمة دولياً. قد «تسقط» دول وتجيء دول أخرى نتيجة تبدلات في ميزان القوى الدولية، لكن «النظام» يبقى ويستمر مستولداً «الطبقة السياسية» المناسبة لاستمراره.
ربما لهذا فأهل الطبقة السياسية الذين احتلوا صدارة المواقع الحاكمة والمتحكّمة بالدولة، أقوى من الدولة…
لقد صيّروها دولتهم، واستمروا بإلغاء «مواطنيها» لأن «النظام» يعترف بالرعايا فقط، والطبقة السياسية لا تعيش ولا تستمر إلا إذا تحوّل «الشعب» إلى «مجموعات من الأقليات» التي يستحيل على أفرادها أو على مجاميع المنتمين إليها أن يكونوا «مواطنين».
إذن، نحن في «دولة» ضعيفة دائماً بنظام قوي جداً، لأنه محصّن بالرعاية الأجنبية، والنظام ليس بحاجة إلى «مواطنين»، وإن كان يسبغ نعمته على كل من ارتضى أن يكون من «رعاياه».
من هنا فإن أهل الحظوة من الطبقة السياسية يتصرفون على أنهم «أصحاب الدولة»، بالمعنى الفعلي لا المجازي، فهم سدنة النظام، وبالتالي فهي «دولتهم» ورعاياها رعاياهم…
كل من وضع منهم يده على مؤسسة (وزارة، إدارة، مصلحة) صارت له. فالرئيس أهم من الرئاسة. والوزير أهم من الوزارة. والصراع مثل المباراة المقفلة محصور بأهل الطبقة السياسية.
طبيعي، والحال هذه، أن يكون لكل طائفة ـ ممثلة بزعاماتها ـ وزاراتها…
ولما كان لكل طائفة «صاحب» أو «صاحبان» كحد أقصى، فقد صار لكل من أصحاب الدولة (وهم أصحابها فعلاً!!) عدد من الوزارات لا يتركها ولا يستبدلها بغيرها في الغالب الأعم…
صارت كل وزارة، بل كل إدارة، إقطاعية طائفية لواحد من أصحاب الدولة، وسقطت جدوى النقاش حول إمكان الإبدال وإن بقيت مساحة محدودة للاستبدال: حقيبة مقابل حقيبة.. «بعد دراسة الجدوى»!!
في «نظام» كهذا فإن لمحتكري تمثيل طوائفهم من الرؤساء بين أهل الطبقة السياسية حصاناتهم… أما المؤسسات فليست لها حصانة: للدولة أصحاب، تذهب فيبقون، ويعيدون بناء «الإدارة» عبر استخدام «رعاياهم» الذين يدخلون ببركاتهم وبإذنهم ويعملون بتوجيههم، فإن «انحرفوا» طُردوا شر طردة واستبدلوا ببعض المتزاحمين على أبواب أصحاب الدولة المتصرفين بها تصرف المالك بملكه!
… ولقد حدث أن سقطت «الدولة» أكثر من مرة. لكن رعاة النظام من «الدول» سرعان ما أعادوا استيلاد الدولة مجدداً، لحماية هذا النظام الاستثنائي الذي يتباهى بعض أهله بالقول: إنه أقوى نظام قائم في المنطقة! إنه سابق على إسرائيل، وأقوى منها!
هو إقطاع طوائفي، مع شيء من التعديلات التي فرضتها مفاهيم العصر ومبتكراته: حصانة النظام توفرها «الدول»، وحصانة «الطبقة السياسية»، ومنها الرئاسة، توفرها الطوائف باعتبارها أركان النظام المدول.
لذلك فإن الصراع في لبنان يظل ـ بنتائجه ـ خارج السياسة، بغض النظر عن القوى التي تحركه وتخوضه، والشعارات السياسية التي تحملها أو تهتف بها في الساحات المفرغة لتظاهراتها التي تنتهي من حيث بدأت…
ولذلك فإن المشروعات الطامحة إلى الإصلاح والتي قد يهرع إلى تبنيها بعض أهل الطبقة السياسية سرعان ما تتهاوى في مجلس الوزراء ثم تسقط بالضربة القاضية، ديموقراطياً، في مجلس النواب.
لقد كشفت بعض المقترحات التطويرية للنظام الانتخابي أهل الطبقة السياسية جميعاً، برغم براعتهم في لعبة تبادل الكرة بين الحكومة والنواب: تقاسموا الأدوار، البعض يقبل مزايداً فيمتص النقمة، والبعض يرفض مناقصاً فيمتص احتمال التغيير… وهكذا صوّت الجميع «ضد» وإن اختلفت ألوان القمصان في الفريقين!
سقط احتمال الإصلاح (المحدود) بالضربة القاضية… وتبادل أهل الطبقة السياسية التهاني: النظام أقوى من المطالبين، أقوى من مجلس الوزراء مجتمعاً ومن مجلس النواب منقسماً (وهذا بين أسرار اللعبة)… وحده النظام هو الباقي، لا يأتيه التغيير أو التعديل من خلفه أو من قدامه… فإذا ما تهدده الخطر هدد «رعاياه» الذين يصعب جمعهم في «شعب واحد» بالحرب الأهلية، فسعوا إليه يطلبون رحمته معلنين توبتهم عن طلب الإصلاح!
لكن هناك أنواعاً من الإصلاح مطلوبة لتجديد التوازنات الطائفية تمهيداً لتقاسم السلطة بين أهل الطبقة السياسية من أصحاب المواقع السامية… وتلك هي معضلة «الدولة» اليوم.
والأزمة أخطر من إمكان تلخيصها بالتعرض لمقام هذا أو ذاك من أصحاب المقامات السياسية والدينية، بحكم مواقع الطوائف في صلب هذا النظام الفريد.
وأهل الطبقة السياسية مهتمون بحصر الأزمة «فوق»، لأنهم هانئون في مواقعهم الممتازة الآن، وليسوا مهيئين لأن ينزلوا إلى الشارع لمواجهة طلب العدالة في توزيع الصلاحيات، مرة أخرى.
النظام جاهز للمواجهة… ولكن ليس في الشارع إلا الفراغ!
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 22 آذار 2010