بقبلات على اليدين والقدمين “انتزع” ولي ولي العهد الاعتراف من ولي العهد، الذي ربت على كتف “بديله” و”خليفته” المفرد في المنصب السامي، ثم غادر وعلى وجهه طيف ابتسامة سيختلف الخبراء في “ترجمتها”.
وهكذا، وببساطة ملفتة، خرج الامير محمد بن نايف من موقعه الممتاز بينما “خلفه” محمد بن سلمان يسعى بين يديه مودعاً بشيء من الارتباك..
… وتقدمت مملكة الصمت والذهب خطوة في قلب الغموض العائلي المقدس، في اتجاه المستقبل ـ كما جرى التبرير ـ علماً بأن ولي العهد “المخلوع” هو من “جيل الشباب”، قياساً.. بتقاليد العائلة المالكة، ..وهكذا فان محمد بن سلمان سيكون قطعاً أصغر الملوك متى تسلم العرش، خصوصاً إذا ما أقدم والده على التنحي لأسباب صحية.
لكن الهدوء الذي احاط هذا الانقلاب كثيف جداً وينشر ضباباً لا يساعد على وضوح الرؤية، مع أن القرار بتوريث الملك سلمان نجله محمد كان شبه معلن، منذ أن قدمه على “اعمامه” المتقدمين في السن، مثله، والذين كان قد استبعدهم، اصلاً، مستبقياً منهم الامير مقرن بن عبد العزيز، ثم لم يلبث أن خلعه ليعين ابنه الامير محمد ولياً لولي العهد محمد بن نايف.
لم تهتم الدول الحليفة والشقيقة والصديقة بهذه التطورات الملكية التي كان الكثيرون يتوقعونها، بل سارع الملوك والرؤساء (بمن فيهم الرئيس اليمني المخلوع منصور هادي) إلى تهنئة الملكين الوالد والنجل ولي العهد المفرد، باعتبار أن هذا الامر من الشؤون الداخلية التي لا علاقة للخارج بها.. مع أن الاوساط المتصلة بولي العهد الجديد سارعت إلى التذكير بعلاقته المميزة بالولايات المتحدة الاميركية، وزيارته واشنطن حيث حظي باستقبال ملكي في البيت الابيض، وعقد معه الرئيس الاميركي دونالد ترامب اجتماعاً رئاسيا احتل فيه الامير ووفده جانباً من الطاولة الرئاسية في مواجهة الرئيس الاميركي ووزرائه ومعوانيه.
كانت تلك الصورة الاستثنائية في مكانها وزمانها ناطقة بدلالاتها وايحاءاتها، التي لم تلبث أن تبلورت خلال زيارة الرئيس الاميركي “المباغتة” للمملكة المذهبة، في اول خروج له إلى العالم.. وقد حظي خلالها الامير محمد بن سلمان من ترامب بلفتات دالة، خصوصاً عند عرضه بعض انجازات خطته للمملكة ـ 30، وكان والده في غاية السعادة وهو يشهد الحوار بالإنكليزية الذي لم يفهم منه حرفاً، بين ضيفه الكبير ونجله الشاب بحضوره المميز.
******
كانت واشنطن، اذن، على علم ـ بل لعلها شريكه ـ بالانقلاب الابيض الذي سيقوم به الامير الشاب مستنداً إلى دعم والده، والذي سيفتح امامه الابواب ليكون ملكاً مع غياب ابيه الذي ضربه التقدم في السن بشيء من الخرف وضعف الذاكرة، والذي بات يتعجل تدبير امر الحكم بعده…والأعمار بيد الله، لكن الاحتياط واجب..
ولقد تم اعداد خطة “التسلم والتسليم” بهدوء وتنظيم دقيق، وهكذا لم يفاجأ محمد بن نايف بالقرار، ولا هو اعترض عليه ـ اقله علناً ـ، ثم أن ستة وثلاثين اميرا من ابناء الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود قد “بايعوا” محمد بن سلمان، قبله، في حين عارض او امتنع ثلاثة فقط من افراد الاسرة الملكية..
وتكشف مسارعة الملوك والرؤساء العرب، على اختلاف مشاربهم، إلى التهنئة والتبريك لولي العهد (الملك الجديد…) أن معظمهم كان على علم مباشر، او أن مخابراتهم كانت قد ابلغتهم مسبقا بهذا التطور المنتظر والذي كانت المفاجأة فيه توقيته فحسب.
بالمقابل، يمكن القول إن الترويج الواسع لخطة السعودية ـ التي أعدتها للأمير محمد بن سلمان بعض اشهر بيوت الخبرة الاميركية، انما كان يوحي بما يتم الاعداد له لتهيئة الامير لتولي العرش على قاعدة من العلم والتخطيط وليس بالاستناد إلى حق الوراثة وحده.
كذلك يمكن القول أن اقدام الملك سلمان على كسر القواعد المتبعة في الاسرة في ما يتصل بولاية العهد كان امراً مخططاً له ومدبراً من قبل: فلقد عين الملك سلمان اخاه غير الشقيق مقرن ولياً لعهده، ثم عزله في ليل، وعين الامير محمد بن نايف ولياً للعهد قبل أن يضيف اليه ابنه الامير محمد بن سلمان ولياً لولي العهد، في سابقة لم تحصل من قبل.
ومعروف أن الملك سلمان يعاني من امراض عدة، ليست جميعاً بسبب من تقدمه في السن، واشدها تأثيراً على سلوكه” النسيان”، الذي يضطر رئيس ديوانه إلى مواصلة الهمس في اذنه ليذكره باسم ضيفه، وبالوقوف لقراءة الخطاب الذي يكتب عادة بحروف كبيرة، علما بان الملك كان إلى ما قبل سنوات قارئا نهماً، وكان يحيط نفسه بشلة من الصحافيين العرب، فضلاً عن السعوديين ، كما كان من افضل المستمعين إلى آراء الآخرين وكان لا يتأخر عن مناقشة اصحاب الرأي المختلف، كما كان يحب الظرفاء من اهل النكتة ولا يتردد عن التباري معهم في سرعة البديهة.
*****
ومن أطرف ما يستذكره كاتب هذه السطور الواقعة التالية:
اثر الحادث الجلل متمثلاً باقتحام جهيمان العتيبي ومن معه من المتشددين والمتطرفين في تفسير النص الديني والحديث النبوي الشريف، الكعبة المشرفة في مكة، فوجئت باتصال من السفير السعودي في بيروت، اللواء علي الشاعر، يطلب لقائي.. ولما التقينا، وانا أقف على الضفة السياسية المقابلة ولي مواقفي الحادة من المملكة، وجدته يستقبلني بلطف فائق ويقول لي انه مكلف بإبلاغي دعوة خاصة من المملكة لزيارتها. بعدما افقت من المباغتة سألته: وهل سنكون وفداً صحافيا يذهب من لبنان للاطلاع على حقيقة ما جرى؟ قال لي بهدوء: بل أن الدعوة لك وحدك، فاختر يوم سفرك لنبلغهم في الرياض لكي يكونوا في استقبالك..
عدت إلى “السفير” فناقشت الامر مع اسرة التحرير، وبعدما افاقوا من الصدمة اجمعوا على تشجيعي، والقيام بالزيارة فورا، لان الحدث استثنائي بكل المعايير: الزمان والمكان الذي له قداسته الاستثنائية، وارتداداته المنطقية على المملكة والحكم فيها بعنوان الاسرة السعودية.
ذهبت فعلاً، وقمت بزيارة مكة، وتجولت في ارجاء الكعبة المشرفة التي كانت القذائف والقنابل وزخات الرصاص قد هدمت بعض مآذنها وتركت ثقوباً في الجدران والاعمدة والسقوف جميعاً.
ومعروف أن مملكة الصمت والذهب قد استعانت، حينها، بالقوات الخاصة الاردنية والفرنسية لاقتحام الكعبة والقضاء على جهيمان ومن معه: وقد نتج من ذلك تدمير الاثر المقدس تدميراً شبه كامل.
تسنى لي أن التقي في الرياض، بعد ذلك، أن التقي اكثر من عشرين اميراً، كان اولهم الملك الراحل خالد وولي عهده الراحل الامير فهد ثم قافلة من الامراء بينهم نايف وسلطان وعبدالله الخ..
كانوا جميعا في موقع الدفاع مما سهل النقاش، خصوصا وان كلا منهم كان يريد دفع تهمة التقصير عن نفسه… ثم انهم كانوا ينتقلون إلى الهجوم، فينسبون ما حدث إلى ردة الفعل الغبية او التقليد المرتجل للثورة الايرانية، ولو بشعارات متطرفة إلى حد الغرق في الجاهلية.
على أن أطرف ما حدث لي كان في لقاء امير الرياض آنذاك (الملك الآن) سلمان بن عبد العزيز.
فبعد عشاء سخي، من دون مبالغة، جلست إلى الامير في الحديقة الجميلة، وكانت الليلة مقمرة والهواء لطيفاً، وانطلق الامير سلمان يحلل الحدث الجلل ويحاول تحديد خلفياته وأبعاده و”هوية” الجماعة المسلحة التي ارتكبته..
بعد تحليل مستفيض، نظر اليّ الامير سلمان وقال بلهجة من يصارح ضيفه: ” ـ اسمع يا اخ طلال.. نحن لسنا اسرة محمد علي في مصر. لسنا من الارناؤوط او الالبان الوافدين إلى هذه البلاد، غرباء عنها. نحن اهل الارض، وجوهنا من رملها، من نخيلها، من شمسها، من ضوء القمر..”
صمت لحظة ثم اضاف مبتسماً: يكفي أن اقول لك أن واحداً من اجدادنا هو مسيلمة الكذاب..
ضحك وضحكت وانا اغمغم: اما هذه فقد عرفتها بنفسي!
(نص الواقعة منشور في “السفير” العدد رقم 2052 الصادر بتاريخ 8 كانون الثاني العام 1980)
ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق