ارتقت مسألة الأمن في منطقة بعلبك ـ الهرمل إلى مستوى الرئاسة الاولى في غياب “الدولة” بحكومتها واجهزتها الامنية العديدة، الظاهر منها والمتنكر بلباس مدنية..
تجيء الحكومات وتذهب و”الاحداث الامنية” في المنطقة، بعنوان بعلبك، تتزايد، والرصاص العشوائي يتصيد سيء الحظ العائد من عمله متعباً او الذاهب إلى المقهى” ليسلي صيامه”، او القاصد بعض جيرانه ليسمر معهم وليتبرك بزيارة المسجد القريب للقاء “اخوته المؤمنين”.
التجول ممنوع في بعلبك، اناء الليل واطراف النهار، من دون الكشف عن الاسباب غير الظاهرة.. أما السبب المعلن فهو دوي الرصاص التي يقتل حتى لو كان طائشاً.. بل لا سيما إذا كان طائشاً، ولا فرق بين أن تكون الاسباب معلنة ومفهومة او تكون غامضة وتبقى غامضة لان اعلانها قد يرتب نتائج خطيرة على من يكشفها.
لقد تعاظم عدد سكان بعلبك وتمددت مساحتها فصارت بعض القرى المجاورة اشبه بأحياء فيها، وتجاور اهلها “الاصليون” مع “ضيوفهم” من الفلسطينيين والسوريين والعشائر التي نزحت عن قراها طلباً للرزق.
بارت الزراعة، فازداد الفقراء فقراً، وانصرف عنها اهلها مستعينين بالعمال السوريين الارخص اجراً من اقرانهم اللبنانيين..
وفي محاولة لمعالجة مسألة زراعة الحشيشة تبنت الحكومة قراراً بتشجيع المزارعين على استبدال حشيشة الكيف بدوار الشمس متعهدة بان تشتري منهم انتاجهم بالثمن… وكان حلاً مقبولاً في تلك اللحظة. لكن “النافذين” استمروا يزرعون الحشيشة، محاطة “على الداير” بدوار الشمس، وهكذا يصير دخلهم، بين الشرعي وغير الشرعي، مضاعفاً..
ثم تفجرت الحرب الاهلية، وسقطت الدولة، التي كان وجودها، على أي حال، رمزياً، في تلك المنطقة البعيدة عن قلبها وعينها واداراتها، فتعاظمت فوضى السلاح وعمت المخالفات، وصارت اجهزة الدولة شريكاً فيها.
أخطر ما في الامر أن اهالي المنطقة بدأوا يتعاطون “التحشيش”: لا فرص عمل، والوظيفة بالواسطة، والتسعيرة إلى ارتفاع وبالدولار: للدركي تسعيرة، وللجندي في الجيش تسعيرة، وللموظف في الجمارك تسعيرة… اما المتقدم إلى المدرسة الحربية ليكون ضابطاً فالسعر بالدولار: في البدايات عشرة آلاف، ثم عشرون الفا، وصولاً إلى خمسين الفا فإلى مائة الف دولار، فأكثر..
لا مصدر دخل الا الارض، والقمح والعدس والحمص، وكذلك العنب والكرز والمشمش (الذي اشتهرت به بعلبك) لم يعد يكفي الفلاح الذي يتعب ويعرق طوال شهور ثم لا يجني ما يساعده على تحقيق الكفاية وتعليم اولاده في المدارس الخاصة، لان التعليم الرسمي تراجع (لا سيما في الابتدائي) حتى صارت المدارس الخاصة هي المقصد.. برغم كلفتها.
*****
المزارعون، عامة، لا يحبون الهجرة.. لكن ابناءهم الذين ضاقت بهم ارضهم التي لا تطعمهم باتوا “يهربون” من واقعهم التعيس إلى أي مكان يقبلهم، بصورة شرعية، واحيانا بشراء الفيزا، واحيانا بالتهريب..
المزارعون، عامة، لا يحبون الهجرة.. لكن ابناءهم الذين ضاقت بهم ارضهم التي لا تطعمهم باتوا “يهربون” من واقعهم التعيس إلى أي مكان يقبلهم، بصورة شرعية، واحيانا بشراء الفيزا، واحيانا بالتهريب..
لا مجال للعيش بكرامة في الوطن، فلنجرب اوطاناً أخرى..
صار ابناء الفلاحين، ملاك الارض، انصاف متعلمين، فهجروا الزراعة بطبيعة الحال، وقصدوا الدولة: في كل دورة درك او جيش او امن عام يتقدم الآلاف، واحيانا عشرات الآلاف.. يؤخذ منهم مئات، ويعود الآخرون إلى بيوتهم خائبين..
ابواب الدولة مقفلة في وجوههم.. وهم لا يتقنون مهنة، والهجرة مكلفة وغير مضمونة.. والحشيشة متوفرة، وقد عززتها حبوب الكبتاغون، وهذه نجدة ممتازة وفي وقتها.
تكدس الفقراء الذين هربوا من قراهم طلباً لأي عمل في ضواحي بيروت، وابتدعوا انماطاً جديدة من المهن، وعملوا في كل ما يمكن أن يوفر الرزق، وهربوا إلى الحشيشة والكبتاغون والمشروبات الروحية، وكل ما يساعد على نسيان الواقع وتغذية الاحلام..
زادت المشكلات حدة… فازدهرت سوق السلاح، وتزايدت اعمال السلب والنهب والخطف لطلب الفدية.
صارت الطريق إلى بعلبك مركزاً ممتازاً للكمائن المسلحة، بهدف “التشليح”، وسرقة السيارات، وخطف الاغنياء لطلب الفدية.
واحيانا كانت الكمائن تقام بين مخفرين للدرك او حاجزين للجيش..
وقيل أن “شبكات الرزق المشترك” قد نشأت بين المسلحين وبعض النافذين ممن لهم سلطة الامر على قوى الامن..
وقيل إن ثمة من يبلغ القرى التي فيها مطلوبون بحملات الدهم لتي ستقوم بها قوى الامن فيغادرون قراهم، لبعض الوقت، إلى الجرود، حتى إذا ما انتهت المداهمة عادوا إلى ما كانوا فيه وعليه، وكفى الله المطلوبين شر المداهمات.
*****
أن يتفلت الامن في بعلبك، ويدوي الرصاص في جنبات مدينة التاريخ، وان يُغِيرَ بعض المسلحين على احياء اهلهم وجيرانهم، كل ذلك يندرج في خانة النتائج، والمطلوب اساسا معالجة الاسباب.
ولا معالجة إذا ما استمر غياب الدولة: الدولة بما هي حاضنة لشعبها في همومه الاقتصادية والاجتماعية.
كانت المدرسة الرسمية هي المقصد، فصارت المدرسة الخاصة هي الاصل ومن تعذر عليه ادخال اولاده فيها عاد إلى المدرسة الرسمية صاغراً.
كانت “هيبة الدولة” هي الأساس.. فزاد عديد الجيش والدرك واصناف المخبرات والاجهزة الامنية، لكن الهيبة لم تحضر، فزاد الفلتان الامني، وصارت الجريمة يمكن أن تقع بين حاجزين لقوى الامن.
تواجد قوى الامن لا يعني حضور “الدولة”. الدولة أخطر من أن تختصر برجال الامن. الدولة اقتصاد واجتماع، زراعة وتعليم، استشفاء وفرص عمل.
الدولة رعاية. الدولة أم وأب، مدير ومرب وخبير قبل أن تكون ضابطاً وعساكر.
منطقة بعلبك ـ الهرمل يتيمة: لا احد معني بها، ولا أحد يسأل عنها.
بل أن الدولة، بأجهزتها المختلفة وبإعلامها الرسمي معززا بالإعلام الخاص تسهم في تعميم صورتها كأرض الطفار والخارجين على القانون، زراع الحشيشة ومروجيها (ومعها الكبتاغون).
تغيب بعلبك عن الاهتمام وبالتالي عن الاعلام الرسمي والخاص في الفترة بين المهرجانين فيها، ثم لا تحضر الا في سجل “المطلوبين” و”الخارجين على القانون” و”الطفار” الذين ينصبون كمائن التشليح والخوة والخطف وسرقة السيارات الفخمة..
والشكوى لغير الله مذلة..
ولكن ليس من سبيل آخر غير صرخة الوجع: ترى لماذا جرت الانتخابات وسط هدوء شامل كامل، ثم تفجرت المشكلات ومعها القنابل واصابع الديناميت ورصاص الرشاشات الثقيلة، فأسقطت أمن مدينة الشمس، وكادت تغتال الشمس ذاتها..