في أواخر تشرين الثاني 1989، التقيت الصديق الأخضر الإبراهيمي في مناسبة حزينة في زغرتا: كان كلانا يشارك في تشييع جثمان الرئيس الشهيد رينيه معوض، الذي اغتيل أثناء عودة موكبه من الاحتفال بذكرى عيد الاستقلال في السراي الحكومية المؤقتة (وزارة الداخلية الآن) إلى مقره المؤقت في الرملة البيضاء.
همس لي سي الأخضر ونحن نسير مطرقين في الموكب الحزين: معي طائرة خاصة قدمتها لي السعودية لهذه الرحلة.. وأنا وحدي فيها. هل تذهب معي إلى الجزائر؟
أسعدتني الفكرة، ولم أتردد في قبولها.. وهكذا اعتلينا نحن الاثنان الطائرة الخاصة نقصد الجزائر، التي كنت بين اوائل “العرب” الذين قصدوها، فور استقلالها، وشهدت في مجلسها النيابي انتخاب الرئيس الأول لجمهوريتها المستقلة بعد استعادتها هويتها العربية، البطل العائد من الأسر الفرنسي أحمد بن بله.
أنزلني “سي الأخضر” في فندق بسيط للدولة يدعى “الرواق”، ووضع تحت تصرفي سيارة بسائق ومرافق لكي أجول في عاصمة المليون شهيد.
في اليوم التالي كان شيء من الإلفة قد نشأ بيني وبين المرافق “سي محمد” فطفقت أسأله عن كل ما أراه: الميادين، الشوارع، المواقع ذات الأهمية التاريخية لهذه العاصمة التي كانت احياؤها الفخمة، للمستوطنين الفرنسيين (الأقدام السوداء)، والشوارع الخلفية والأحياء الشعبية الفقيرة لأهل البلاد: الجزائريين.
أردت أن أعرف مرافقي الأربعيني أكثر فسألته عن عائلته وكم ولداً لديه.. ولقد فوجئت عندما رد بهدوء: لم اتزوج بعد!
لماذا؟ سألته بنبرة استهجان: …!
قال: نحن في بيتنا ثمانية، والبيت غرفتان وصالة، لذلك لا يمكننا أن ننام جميعاً في وقت النوم، وهكذا يكون علينا أن نتناوب على الأسرة الموجودة، فينام البعض وينصرف الآخرون إلى الشارع “يتنزهون” حتى يحين موعد مناوبتهم، فيعودون إلى البيت ويوقظون من عليه الدور في “التنزه” حتى يستطيع غيره أن ينام بعض ساعات الصباح الأولى!
خلال رحلة العودة، أخبرت “سي الأخضر” بما سمعت من المرافق الخاص، فتنهد وقال: أزمة الجزائر خطيرة، اقتصادياً ، ألم تسأل الرئيس الشاذلي الذي قابلته عنها؟
قلت: كان اللقاء بارداً في البداية.. وقال لي ما معناه، أن الموعد قد فرض عليه، بينما برنامجه مزدحم بالمواعيد… ثم انطلق يتحدث في مسائل كثيرة لم أسأل عنها، وكل ما فهمته أن نهوض الجزائر قد تأخر قليلاً، لكنه آت … فلما حدثته عن المرافق والنوم بالدور، قال: هذا ما تركه لنا الاستعمار، لكننا سننهض!
وعلق “سي الخضر” وهو يتنهد: الجزائر بحاجة إلى الوقت لتعويض ما فاتها… فليل الاحتلال والفرنسة والسيطرة على المقدرات جميعاً، كان طويلاً. لذلك، لا بد من الصبر، الكثير من الصبر..
ها هو عبد العزيز بوتفليقة يرشح نفسه الآن لولاية رئاسية خامسة..
لم يقنع هذا الرجل المضروب بالشلل، والذي يتحرك فوق كرسي نقال بأربع ولايات رئاسية حكم خلالها الجزائر حكماً مطلقاً.. بالجنرالات!
.. ولا هو تنبه إلى الملايين من أحفاد ثوار المليون شهيد وهم يهتفون في استقبال الرئيس الفرنسي، ذات يوم: “فيزا ، فيزا”!..
انهم الآن يذهبون إلى المستعمر القديم طلباً للخبز!
أية نهاية مأساوية لثورة المليون شهيد، والمليون متظاهر طلباً للفيزا، في ظل رئيس يتحرك على كرسي المشلولين!