في الآونة الأخيرة، ومع ظهور تباشير توحي بقرب انتهاء الحرب في سوريا وعليها، تصاعدت حدة الغارات الإسرائيلية على قواعد ومطارات عسكرية في مختلف انحاء هذه “الدولة الجريح”، شرقاً وشمالاً وجنوباً حتى الحدود مع الأردن وفلسطين المحتلة، بذريعة “ضرب قواعد الصواريخ الإيرانية”، وغالباً عبر الفضاء اللبناني.
كان الطيران الحربي المعادي يتجنب القواعد الروسية على الساحل السوري، ويركز على ما يفترضه مواقع لـ”الخبراء” و”قوات الحرس الثوري الإيراني” وقواعد صواريخه، ومع كل هذه “الأهداف”: قوات المتطوعين في “حزب الله” الذين ذهبوا من لبنان لنصرة سوريا.
في هذا السياق كانت الغارة الإسرائيلية الأخيرة فجر يوم الإثنين الماضي، في محاولة لقصف بعض المنشآت والقواعد العسكرية السورية والإيرانية، بالقرب من اللاذقية، والتي واجهتها الصواريخ السورية، فكانت النتيجة إسقاط طائرة عسكرية روسية كانت تقلع من مطار قاعدة حميميم في الوقت ذاته، واستخدمتها الطائرات الحربية الإسرائيلية غطاء لها.
وكان من الطبيعي أن يتفجر الغضب الروسي، خصوصاً وان خمسة عشرة جندياً قد ذهبوا ضحية لهذا التوغل الإسرائيلي في الفضاء السوري، واستغلال قيام الطائرة الروسية “كغطاء” للطائرات الحربية الإسرائيلية مما أدى إلى إصابة تلك الطائرة التي كانت بينها وعلى قرب شديد منها.
ولقد حاولت حكومة العدو الإسرائيلي، ورئيسها، الإعتذار من موسكو، فرفضت هذا الإعتذار، مصرة على إكمال التحقيق وكشف تقصد الطائرات الحربية الإسرائيلية “الإحتماء” بالطائرة الروسية، مما ادى إلى إصابتها، كما رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الرد على مكالمة نتنياهو..
إضافة إلى هذا فقد أرسلت روسيا سرباً من أحدث وأقوى طائراتها الحربية فجاب الفضاء فوق شواطئ فلسطين المحتلة.. كما باشرت سفنها الحربية مناورات واسعة أمام قبرص والشاطئ السوري، كرسالة واضحة الدلالة لمن يريد أن يفهم… وبالمقابل رفض بوتين لقاء الوفد الذي أوفدته إسرائيل برئاسة وزير دفاعه، وأحاله إلى بعض معاونيه.
****
نروي هذه الوقائع ذات الدلالات القاطعة، بينما لا يكف الطيران الحربي للعدو الإسرائيلي عن اختراق الحدود مع لبنان وسوريا يومياً، وقد أضاف الفضاء العراقي إلى مجاله الحيوي، دون أن يلقى أي رد فعلي يوقفه عند حده.
في الوقت ذاته تظهر بوادر مقلقة أبرزها أن بعض العواصم العربية في الخليج لم تعد تتورع عن “الإعتراف” بالكيان الاسرائيلي و”تنشيط” العلاقات معه فمن المقرر أن تقام قنصلية اسرائيلية في دبي (وهي قائمة، كما يقول كثيرون) فضلاً عن أن قطر كانت السباقة إلى الاعتراف بإسرائيل وتبادل الزيارة بين بعض المسؤولين.. كما أن الأمير تركي الفيصل آل سعود يجاهر بالمشاركة في ندوات ومؤتمرات تتمثل فيها دولة العدو الاسرائيلي ببعض “مفكريها” ومسؤوليها.
بالمقابل “تذوي” السلطة الفلسطينية التي لا سلطة لها وتكاد تضمحل.. وتتسع الفجوة الخطيرة بينها وبين “حماس” في غزة التي توطد “سلطتها” هناك ويتساقط الشهداء منها كل يوم جمعة وهم يتظاهرون خلف السور الذي أقامه العدو الاسرائيلي ليجعل من الشعب المشرد “شعبين”، غير “الشعوب الفلسطينية” المتناثرة في الأرض شرقاً وغرباً وبين.
آخر ما حرر في هذا المجال إقفال السفارة (أو الممثلية) الفلسطينية في واشنطن، و”طرد” السفير، بينما نقلت الولايات المتحدة الأميركية سفارتها من تل أبيب إلى القدس المحتلة وحرضت بعض الدول التابعة في أميركا اللاتينية وغيرها على نقل سفاراتها هي الأخرى..
وبالطبع، لم تحرك الدول العربية ساكناً.. ولا هي تحركت حين سحبت أميركا وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين ووقف مساهمتها في الموازنة الضئيلة أصلاً والتي كانت تساعد هؤلاء المطرودين من بلادهم قسراً في مجالات التعليم والصحة والإقامة ولو في ألواح من الصفيح.
****
هل سقطت فلسطين، كقضية مقدسة، وحقوق أصيلة لشعب عربي في أرضه؟ هل نسيها العرب وانشغلوا بهمومهم الثقيلة الأخرى.
أن الخريطة السياسية للأوضاع العربية القائمة لا تترك مساحة خاصة لفلسطين وقضيتها، ولا للصراع مع العدو الاسرائيلي..
مصر مشغولة بهمومها الداخلية متمثلة بالزيادة الاسطورية لعديد شعبها (105 ملايين) وعجز موازنتها وديونها الخارجية الثقيلة والجرح الذي انفتح في خاصرتها الليبية ومكافحة العصابات الإرهابية (التي لا يستبعد انها تلقى دعم العدو الإسرائيلي..) فضلاً عن التهديد الأثيوبي لمياه النيل، وفضلاً عن أن بعض الخليج بدأ يدير ظهره لمصر مشترطاً عليها مساعدته في حربه التدميرية الظالمة على اليمن الخ..
وليبيا الدولة قد اختفت عن الخريطة بفعل حروب القبائل والأعراق والأطماع الأجنبية (والعربية) التي تواصل تدمير العمران فيها وتخريب أسباب الحياة وتعميق التقسيم بين أشتات الشعب الواحد بحيث يعود قبائل وعناصر مقتتلة، فيها العرب الحضر والبدو والبربر، مع حدود مفتوحة مع تشاد والنيجر، تستقبل يومياً طوابير النازحين القاصدين الهرب إلى أوروبا والذين يغرق نصفهم في البحر ويسجن الباقون فور وصولهم.
.. وتونس تهتز وهي ترى ماضيها أفضل من مستقبلها، فلا تعرف أن تختار فتستقر..
والجزائر تشهد سلسلة من التدابير والإقالات العسكرية والمدنية بذريعة منع إنقلاب محتمل، ويطرد رئيسها من فوق كرسيه المتحرك كبار ضباط جيشه، ربما لاعتراضهم على تمديد ولاياته إلى ما لا نهاية.
فأما المشرق فليست أوضاع دوله أفضل حالاً:
ـ لبنان يعجز عن تأليف حكومة جديدة، والحكم مشلول والأوضاع الاقتصادية تتردى، والطبقة السياسية ينكشف فسادها ونهبها أكثر فأكثر.. لكن “الضمانات” الأجنبية والعربية تجمل هذا الوطن الصغير ولا يسقط..
ـ فأما سوريا التي دمرتها الحرب الوحشية فيها وعليها على امتداد سبع سنوات عجاف، فإنها تحاول الوصول إلى صيغة تسوية يشارك في ضمانها الروس (وتركيا!!) مع عدم اعتراض الولايات المتحدة الأميركية التي تريد حصة من “الكعكة”..
ـ وأما العراق فإن الصراع فيه الذي تختلط فيه العوامل و”المكونات” الداخلية (سياسية وطائفية وعرقية) مع الأطماع الخارجية وضغوط المصالح لدول الجوار العربي والفارسي والأميركي، بوصفه من أكبر البلدان المصدرة للنفط..
هذا الصراع قد سمح بإجراء الانتخابات النيابية التي طعن في سلامتها، ثم قبلت على مضض، لكنه يمنع ـ حتى هذه اللحظة ـ تشكيل حكومة ائتلافية فيه…
ـ وبينما تستمر حرب الإبادة التي تقودها السعودية ودولة الإمارات على اليمن، ويتبدى وكأن العالم كله “عاجز” عن وقفها، تطير مئات مليارات الدولارات العربية “ثمناً” لجريمة العصر، التي لا يتدخل أحد لوقفها..
****
من أسف أن صورة الأوضاع العربية غير مشرقة..
على أن الأسف الأعظم والأخطر أن لا أحد يملك تصوراً عملياً للخروج من هذا المأزق وتبين الطريق إلى الغد.. أي غد، حتى لو لم يكن ـ بالضرورة ـ الغد الأفضل!
تنشر بالتزامن مع جريدة “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية