… أما وأن جهات عديدة في لبنان، رسمية و»أهلية«، سياسية وأمنية و»ميليشاوية«، مالية واقتصادية و»فضولية«، قد استمعت إلى مكالمة التوضيح والتبرير والعتاب التي أجراها الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، من مكتبه في القاهرة الخاضع لأكثر من مركز تنصت، مع العديد من أصدقائه الذين انتقدوا »محاورته« للرئيس الإسرائيلي السفاح شيمون بيريز في »منتدى دافوس«، المكرس للصفقات »الفكرية« والتبادل الحضاري للمعلومات بين الشركاء ـ الأعداء من أصحاب الثروات ومشاريع الهيمنة على اقتصاديات الشعوب.
أما وأن كل مكالمة، خاصة أو عامة، على الهاتف الثابت أو المحمول، وكل رسالة مرمزة أو مفتوحة، يمكن أن تصبح في لبنان مشاعاً وموضوعاً للابتزاز الشخصي والسياسي، أو مادة للتشهير، في بلد الحريات، وفي ظل الاستغلال المكشوف لمقتضيات التحقيق في جرائم الاغتيال السياسي، وباسم »المحكمة الدولية«…
أما وأن »الفضوليين« و»تجار الفضائح« يخترقون حصانة الحرمات جميعاً ويتنصتون على من يختارون من ضحاياهم ليتاجروا، من بعد، بالمعلومات التي قد يسمعون، أو ليتباهوا بأنهم يدخلون إلى مكمن السر فيعرفون ما لا يعرفه إلا »الخاصة« من حفظة أسرار الدول.
.. فلا بأس من كشف المستور في مبررات عمرو موسى لجلوسه مع رئيس دولة العدو الإسرائيلي شيمون بيريز إلى طاولة حوار في منتدى دافوس، جنباً إلى جنب مع الأمين العام للأمم المتحدة ومع رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، تحت إدارة الصحافي الأميركي الشهير بصهيونيته ديفيد اغناثيوس.
قال عمرو موسى إنه يستغرب لومه أو انتقاده، فهو قد شارك ليفضح جرائم الاحتلال، من الحصار إلى التجويع فإلى القتل الجماعي في غزة… وهو قد أدى دوره الطبيعي، فردّ على بيريز، أمام ألف مشارك في المنتدى وكلهم من المتنفذين في العالم، وهي فرصة لا تعوّض… وأنه عاد فأجرى مقابلة مع C.N.N. في هذا السياق، وأن »من واجبنا أن نرد، فنقارع الحجة بالحجة!«.
وختم بالقول: إنه لم ينسحب تضامناً مع رئيس الوزراء التركي لأنه قرّر أن يبقى ليرد على بيريز، وليقارعه الحجة بالحجة، وأن رئيس كيان إسرائيل قد »لخبط في الكلام لأول مرة« نتيجة الهجوم عليه!
ومع التقدير لعمرو موسى فإن الخطيئة كانت، أصلاً، في مشاركته مع الرئيس الإسرائيلي الآتي للتو من المذبحة ضد شعب فلسطين في غزة، والدماء تلطخ يديه وصرخات الأطفال المقتولين ونحيب الأمهات الثكالى، تطارده وتدمغه بصورة السفاح.
وبديهي القول إن الحوار لا يجوز أصلاً مع مثل هذا المثقل بالمجازر الجماعية، وكيف تحاور الضحايا جلادها؟!
ثم إن عمرو موسى هو الأمين العام لجامعة الدول العربية، وأكثرية الدول العربية ـ حتى هذه الساعة ـ ما تزال تصنف إسرائيل كعدو، ولا تتعامل معها، إلا اضطراراً وفي الهيئات الدولية، دونما مصافحة أو محاورة أو اتصال مباشر… فكيف والنار لما تنطفئ في محرقة غزة، والكثير من ضحايا المذبحة الإسرائيلية ما زالت جثامينهم تحت أنقاض المدارس والمساجد والبيوت الفقيرة؟
عمرو موسى الآن ليس وزير خارجية دولة عقدت الصلح مع إسرائيل، وهو في نظر معظم العرب صلح بشروط العدو… إنه في موقع يفترض فيه أن يمثل الجميع، وبالتالي ليس من حقه الجلوس إلى ممثلي دولة العدو، فكيف إلى رئيسها، وبينما دماء الآلاف من ضحايا المذبحة الإسرائيلية لم تجف بعد؟
وإذا كان من الظلم أن نحاسب عمرو موسى على تخلي أكثرية الدول العربية عن شعب فلسطين في غزة، أو من تورط العديد من هذه الدول في السكوت عن توسيع الحصار براً وبحراً وجواً ليشمل إضافة إلى غزة مصر ولبنان وسوريا وما حولها وصولاً إلى اليمن، بذريعة وقف شحنات »السلاح النووي!!« إلى أهلها العزل، إلا من أسلحة محدودة الفعالية، ومحدودة الكميات، والتي تقصر عن مساعدتهم على الدفاع عن أنفسهم، ولو بالحد الأدنى.
… فلا أقل من أن يمتنع الأمين العام لجامعة الدول العربية عن الجلوس إلى السفاح بيريز في ندوة يديرها من يقدمه بوصفه حامل جائزة نوبل للسلام!
لم يعد الحصار إسرائيلياً فقط، الآن، وعلى غزة وحدها، بل هو صار حصاراً دولياً، تشارك فيه الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وألمانيا وسائر دول حلف الأطلسي، وهو يشمل شواطئ الدول العربية جميعاً، وأجواءها جميعاً..
بل إن العرب يساهمون، تحت اللافتة الدولية، وبذريعة منع تهريب السلاح إلى غزة، في محاصرة بعضهم البعض، ومحاصرة أنفسهم… أما إسرائيل فلها الأسلحة جميعاً بدءاً بالنووي وانتهاءً بالفوسفور الأبيض، ولها الأجواء والبحار والمنافذ جميعاً، تأمر فتطاع ويمنع حتى الهواء عن أهل غزة! لم يكن أحد يتوقع من عمرو موسى أن يحمل السلاح ويذهب متطوعاً للمشاركة في الدفاع عن أهل غزة المحاصرين والمقتولين بالنار الإسرائيلية.
لكن من حقنا أن نطلب منه الموقف الطبيعي فحسب، كمواطن مصري، وبمشاعر المواطن المصري بل العربي عموماً: ألا يشارك فيبدو كمن يغفر، أو يتجاوز الجريمة ضد الإنسانية التي يتباهى بيريز بارتكابها!
لقد صار أردوغان بطلاً عربياً عظيماً بسبب موقفه المبدئي البسيط من مذبحة غزة وبطلها شيمون بيريز: »أنتم تعرفون جيداً كيف تقتلون! أنا أعلم جيداً كيف قصفتم وقتلتم أطفالاً على الشواطئ«.
… ولأنه قام فانسحب احتجاجاً على عدم إعطائه الوقت »القانوني« الكافي للرد، فإن الأتراك قد استقبلوه استقبال الأبطال، وأطلقوا عليه من الصفات والألقاب المشرفة ما يعبر عن الموقف الفعلي للشعوب جميعاً ممن وقفوا وجهروا برفضهم المنطقي لكل »التبريرات« الهزيلة للمذبحة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في غزة: »بطل غزة وفلسطين«، »جمال عبد الناصر تركيا«، »حلال عليك«، »درس تاريخي من أردوغان إلى بيريز«، »فاتح دافوس« إلخ..
لقد ضيّع عمرو موسى فرصة أن يستعيد اعتباره الشعبي، بعد كل ما أصاب دور الجامعة العربية وما أصابه شخصياً، نتيجة الانخراط في مساومات وتسويات لم تكن دائماً عادلة وسليمة، عرفنا بعضاً منها في لبنان، ولعلنا قد دفعنا وما زلنا ندفع ثمن الخلل فيها.
ولسنا لندين عمرو موسى، أو لنلومه إلا بصفته الرسمية، أما مواقفه الشخصية فهو حر فيها، إلا في ما يتصل بإسرائيل وبالسفاحين من مسؤوليها قتلة الأطفال في غزة وكل فلسطين، وفي لبنان، ومن قبل في مصر وسوريا والأردن والعراق والسعودية وأقطار المغرب جميعاً…
… والخوف أن نشهد، في مستقبل ليس بعيد، تكراراً للمحرقة الإسرائيلية في مختلف الأقطار العربية، إذا كنا »نعاقب« قادتها بأن نذهب لمحاورتهم ـ ديموقراطياً ـ بعد كل مذبحة.
.. ويا أبا حازم: لقد ارتكبت خطيئة أصلية في بيت المال السويسري، ولسوف تثبت في سجلك… وكان يمكنك التخفيف منها لو أنك ـ على الأقل ـ انسحبت مع »البطل« الذي ناب عنك وعن سائر المسؤولين العرب: رجب الطيب أردوغان، فله الشكر والتحية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2025 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان