أتى الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى إلى بيروت مثقلاً بهموم عربية مصيرية تطارده ويطاردها من مغارب الأرض العربية إلى مشارقها، على طريق تغمرها دماء شعوبها.
وفي بيروت، وعبر من التقاهم هذا الدبلوماسي المتمكّن الذي يفيض حماسة ويكاد لا يعترف باليأس، سمع ما أضاف إلى همومه أثقالاً…
كان سؤاله، في نهاية كل عرض استمع إليه متضمناً وجهة نظر صاحبه: حسناً… هذا هو الواقع، فما هو العمل المطلوب لكشح شبح الخطر الذي يتهدد بلادكم، وحياة أهاليه جميعاً؟! كيف تدرأون عن أنفسكم الفتنة التي تتخوفون من تفجّرها؟!
أما عرض الأمين العام فكان دقيقاً على إيجازه:
الصورة قاتمة جداً، بخنادق الدم فيها وضحايا الصراعات التي تتخذ أحياناً عناوين عنصرية، وفي أحيان أخرى عناوين طائفية، ثم تتفرع إلى المذهبية… وإذا كانت دارفور تشكل في هذه اللحظة الامتحان الجديد لقدرة السودان على التماسك، دولة واحدة، برغم الضغوط التي كانت قد فرضت صيغة الثنائية مع الجنوب، فإن الدول ذات المصالح الهائلة لا تتوقف لحظة أمام خطر أن تفرض ثلاثية (مع إشكالات الشرق) ثم تصير رباعية ، مثلاً، مع تحريك الفتنة النائمة في بلاد النوبة، وهكذا دواليك بحيث ينتهي السودان مزقاً، إذا ما نجحت محاولات التفتيت التي لا تتورع الدول عن استخدام أقدر الأسلحة فيها.. .
.. ويلتفت عمرو موسى إلى من هيأت له ظروف رحلته البيروتية القصيرة أن يلتقيهم فيسأل: هل تدركون أيها اللبنانيون حجم المفارقة التي تعيشون في أسارها؟ إن العالم العربي جميعاً، ومعه العالم الإسلامي برمته، ينظر إليكم بإكبار وتقدير وتبجيل لم ينله أي شعب عربي آخر، بفضل صمودكم وتضحياتكم ومقاومتكم التي تكاد تكون أسطورية. إن لكم صورة البطل في عيون أخوانكم، بحكومتكم ومجاهديكم وتماسك وحدتكم الوطنية.. فلماذا تمارسون ترف التفريط بهذا الإنجاز التاريخي العظيم، وتهدرون هذا الرصيد الاستثنائي الذي يمكن أن يعود عليكم بالخير العميم، اقتصادياً وعمرانياً واجتماعياً؟! لماذا تستهينون بما حققتموه؟ اقرأوا إسرائيل جيداً تدركوا حجم إنجازكم..
وبعد مطالعات تبريرية متنوعة الذرائع يعود عمرو موسى إلى الكلام بنبرة التحذير: إن العرب غارقون في همومهم بحيث إن كلاً منهم مشغول بنفسه. انظروا إلى فلسطين وما حلّ ويحلّ بشعبها. لقد رفضت دول العالم جميعاً، بضغط إسرائيلي أميركي طبعاً، الاعتراف بالحكومة التي أنتجتها الانتخابات التي شهد الجميع بديموقراطيتها. وشارك الجميع في حصار شعب فلسطين، في مناطق السلطة حتى التجويع. وها هي الضغوط تكاد تدفع بهذا الشعب العظيم في تضحياته وصموده، نحو الحرب الأهلية..
ثم انظروا إلى العراق الذي يعيش كارثة حقيقية ضربت كيانه السياسي وذهبت بوحدته الوطنية، وأغرقت شعبه بدمائه نتيجة الفتنة التي تجد من ينفخ في نارها، من الخارج والداخل.
إن الكارثة العراقية تتهدد المنطقة جميعاً، بأقطار الجزيرة والخليج، وصولاً إلى إيران، وأقطار المشرق، سوريا بداية ولبنان بالضرورة… وأفترض، ولكنكم الأدرى بشؤون بلادكم، أن بعض الشظايا العراقية قد أصاب الجسد اللبناني المثخن بالجراح، نتيجة الحرب الإسرائيلية .
ومن قلب المرارة كانت خاتمة أحاديث عمرو موسى مع من التقاهم من أصدقائه اللبنانيين، وفيهم العديد من المسؤولين، بحكم مواقعهم الرسمية أو بحكم ثقل تمثيلهم الشعبي، هي هي دائماً: إن مصير بلادكم بين أيديكم. إن العالم لن يبقى مشغولاً بكم، وأخوانكم العرب أعطوكم كثيراً، وبالتأكيد أكثر
مما أعطوا فلسطين وربما العراق من اهتمامهم… لكن أحداً لن يعطي لبنان من الحرص أكثر مما يمكن أن تعطوه، فمصير بلادكم في أيديكم، وأتمنى أن تثبتوا جدارتكم بهذه المسؤولية.. وأنتم قدها وقدود ، كما تقولون باللهجة اللبنانية، ونحن مستعدون للمساعدة، لكن أحداً لن يحل محلكم ولن يقوم بواجباتكم بالنيابة عنكم… فاهدأوا، وتبصروا بأموركم، واحفظوا بلادكم، بينما المنطقة مهددة بالانهيار .
? ? ?
… ولقد استمع بعض القادة اللبنانيين إلى هذه الصرخة الصادقة، ثم استأنفوا ما كانوا فيه من جدل حول جنس المحكمة الدولية وجنس حكومة الاتحاد الوطني، وأجناس حصص الطوائف والمذاهب… ولكنهم توقفوا ملياً أمام جنس ما جرى بين 12 تموز و13 آب الماضي وفكّروا ملياً ثم حاروا في أمر النتيجة: هل هو نصر أم هزيمة؟ وهل للنصر طائفة أو دين حتى يكون لفريق ولا يكون للطوائف أو الأديان الأخرى نصيب فيه، أم أن الكل شركاء في هذا جميعاً؟ وإذا كانوا شركاء فهل الشراكة تقف عند حدود اليوم أم تمد ظلها إلي المستقبل، وبأية نسبة أو حصة؟! وهل الوطن وطنهم جميعاً والنصر نصره أم لا؟
وفي انتظار تحديد جنس النصر وملائكته، يستمر اللبنانيون في جدلهم الناري المثير… للإعجاب!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان