مع شعار “أمريكا عادت” طار الرئيس جوزيف بايدين إلى أوروبا. حمل في حقائب سفره حلماً، أو وهماً، كبيراً صنعه هو وأعوانه الأصغر سناً خلال الحملة الإنتخابية. وصل وفي ذهنه وأذهانهم أنهم ومن خلال سلسلة قمم متتالية سوف يقنعون الحلفاء من قادة دول الغرب أن أمريكا التي هم في انتظار عودتها عادت. أعدوا حزمة كاملة ومتكاملة من الأفكار وحشروها حشراً في سيل من خطب وتصريحات ومداخلات يلقيها الرئيس بايدين. سمعنا من على البعد ما سمعه القادة الحلفاء والرأي العام الأوروبي وما سمعه معنا قادة في الصين وروسيا وفي أفريقيا وأمريكا الجنوبية. سمعنا اعتذارات صريحة أو مغلّفة عما تسبب فيه عهد الرئيس ترامب من تصدّعات وأضرار، وسمعنا وعوداً وتعهدات أن لا يعود إليها قادة اليوم في واشنطن. قضى الحلفاء، ونحن وغيرنا من على البعد معهم، أسبوعاً تحت وابل هذه الحملة من جهود الإقناع بأن أمريكا عادت، وأن الحلف سوف يستأنف مسيرته بقوة أكبر، ولتأكيد هذا الأمل تطرح أمريكا تصورات أغلبها في شكل توصيات، توصية منها تدعو لتوقيع ميثاق أطلسي ثان يجدد دماء الميثاق الأول الذي وقعه روزفلت وتشرشل في عام 1941، وتوصية أخرى مستوحاة من ظروف الحرب الباردة التي نشبت في ظرف آخر بين أمريكا والغرب عموماً من ناحية والاتحاد السوفياتي من ناحية أخرى، لتطبق هذه المرة مع الصين، وتوصية ثالثة بضرورة استنساخ التجربة ذاتها مع روسيا الوريث الطبيعي للاتحاد السوفياتي.
•••
كان التركيز على الصين في خطب بايدين في القمم الغربية كخطر داهم يهدد العالم الغربي الاقتباس الأهم من الخطاب السياسي لحكومة عهد الرئيس ترامب. لم يستح أعوان الرئيس بايدين من حرفية الاقتباس بل أنهم أضافوا إليه ما لم يأت فيه أصلاً أو بدرجة هامة مثل المسائل الحقوقية في هونغ كونغ وقضية شعب الإيغور في مقاطعة سنكيانج. فهمنا من هذا، أو فهم البعض منا، أن أمريكا العائدة الآن تنتقي من سياسات أمريكا الترامبوية ما يناسب ويفيد. بمعنى آخر يبقى أن أمريكا “النخبة السياسية الحاكمة والمصالح الدائمة”، لم تغب. هي موجودة في عهد ترامب وموجودة الآن في عهد بايدين، وموجودة كانت في عهد الصراع مع الاتحاد السوفياتي.
وراء الانفتاح على الصين الشيوعية في عهد الرئيس نيكسون ومساعده كيسنجر ظروف وأهداف ومصالح. كانت الخلافات الأيديولوجية وعلى الحدود بين بكين وموسكو فاتحة لشهية كيسنجر للاستفادة منها في حربه الباردة مع روسيا. كانت هناك أيضاً الرائحة التي تسربت من بكين عن نية الرئيس ماو الإقدام على حملة إصلاحات داخلية في أعقاب الثورة الثقافية تمادياً من جانبه في تطبيق نظرية الثورة الدائمة. بعد قليل صارت الصين سوقاً رائعة للاستثمارات والصادرات الأمريكية وصارت أمريكا سوقاً أكثر روعة لصادرات الصين وكنزاً مفتوحاً للاختراعات والملكيات الفكرية والتجارب الصناعية. لم تمر ثلاثة عقود إلا وأثمرت العلاقة الأمريكية الصينية جماعة مصالح أمريكية تعتبر الصين منافساً خطيراً ثم مصدر تهديد لمكانة أمريكا. تبنت حماية هذه المصالح جماعات يمينية وعنصرية ومؤسسات سياسية واستراتيجية وجدت في عهد ترامب فرصة ذهبية لتهيمن على مؤسسة السياسة الخارجية في كلا الحزبين وفي المؤسسة العسكرية. بكلمات أخرى كانت أمريكا الغائبة عن حلفها الغربي في عهد الرئيس ترامب وأمريكا العائدة إليه على يد الرئيس بايدين كلاهما معبأتان بفكرة أن الصين صارت تمثل تحدياً لأمريكا وخطراً عليها.
•••
لا يغيب عن البال حقيقة قديمة واستجدت. ففي عامي 1884 و1885 عقد مؤتمر في برلين جرى فيه التزاحم على أفريقيا وانتهي برسم حدود سياسية مصطنعة للقارة “السوداء” وتوزيع أقاليمها على الدول الأوروبية السبع فيما عرف بالإمبريالية الجديدة. لا أزعم أن هناك شبهاً دقيقاً بين ما وقع في 1884 في برلين وما وقع في بعض عواصم أوروبا في الأسبوع الجاري. إنما ما أزعمه عموماً هو أن أغلب القادة الأوروبيين ومعهم نخبة الولايات المتحدة اجتمعوا على قرار جوهره تزاحم جديد على القارة السمراء بعد أن اتضح أن الصين سبقتهم إليها منفردة. حتى المفارقة تفرض نفسها. ففي مؤتمر التزاحم في أواخر القرن التاسع عشر كانت ألمانيا تحديداً هي الدولة الأوروبية التي فاتها المشاركة في الإمبريالية الأولى وأن الدولة التي تقابلها في الشبه والدور والدافع في الأسبوع الجاري من مؤتمرات القمة في أوروبا الغربية هي الولايات المتحدة الأمريكية. صحيح أنه لم يفتها تماماً نصيب من التمتع بمزايا الإمبريالية الجديدة، ولكن الأمر الواضح، وهو الذي سعت وتسعى النخبة الأمريكية لتعديله هو أن النخبة الأقدم أولت اهتماماً أكبر لمزايا وعوائد الجغرافيا السياسية على حساب مزايا وعوائد الاستعمار المباشر بجغرافيته الاقتصادية، وهو الاستعمار الذي استمرت تطبقه دول أوروبية مستخدمة أساليب مختلفة وبخاصة فرنسا قبل أن تنضم إليها وباكتساح مشهود الصين مستخدمة أسلوب مبادرة الحزام والطريق. أخيراً تنبهت الولايات المتحدة ودول أخرى في الحلف الغربي إلى ضخامة العائد للصين نتيجة انتهاجها سياسات تنموية في دول العالم النامي وداخل بعض دول الحلف فراحت في قمم الأسبوع الجاري تعجل بتعويض هذا التقصير من جانب الغرب.
•••
تبقى لنا الإشارة إلى حذر أوروبي ملحوظ. أمريكا العائدة ليست تماماً أمريكا المرجوة عودتها. عادت إلى موقع القيادة في الحلف الأطلسي أمريكا الأوباموية مع تغيرات بسيطة وبعيدة عن الجوهر. لم تعد إلى موقع القيادة أمريكا التي وقعت على ميثاق الأطلسي الأول، أو أمريكا التي أنقذت أوروبا في الحرب العالمية وتبنت مشروع مارشال، أحد أهم مشاريع إعادة الإعمار في التاريخ المعاصر، أو أمريكا المتفوقة حالاً وخلال مستقبل مرئي على كل ما عداها دولة دولة أو تجمعاً لدول. أمريكا العائدة اليوم دولة عظمى ولكن منسحبة، تمزقها في داخلها الانقسامات، منها العنصري ومنها الطبقي ومنها الأيديولوجي وكلها حادة وعنيدة ومتصاعدة. هي أيضاً تواجه منافسة من الصين، القطب الصاعد بشراسة وكفاءة وبإمكانات مستقبلية شبه خرافية. أمريكا العائدة اليوم هددت أمن وعقيدة الغرب بانتخابها رئيساً لا يحترم الدستور الاحترام الواجب ولا يكترث بأحوال حقوق الإنسان في بلاده وخارجها. المثير في الأمر أن دول الحلف الغربي، والولايات المتحدة في صدارتها، أدركت مبكراً أن أمريكا العائدة تغيرت والغرب بأسره ينحدر.