ملفت أن يشدّد الرئيس الأميركي بيل كلينتون في لقائه البروتوكولي الأول وسفير لبنان الجديد لديه على »الأمن« وضرورة الاهتمام بتوفيره وإدامته.
ذلك أنه وباستثناء مسلسل الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على لبنان والتي تضرب أمنه وتسقط فيه الضحايا وتسبّب بخسائر جسيمة، فإن لبنان يتمتع حقاً بأوضاع أمنية ممتازة، مكّنت حكومته من الاندفاع على طريق إعادة بناء ما خرّبته الحرب واستدراج الرساميل والاستثمارات ومطالبة المغتربين بالعودة أو استعادة جنسيتهم، وهذا أضعف إيمان.
كذلك فإن الرئيس الأميركي نفسه كان قد أعطى شهادة متأخرة بسلامة الأوضاع الأمنية في لبنان حين ضغطت إدارته على الكونغرس لرفع الحظر عن سفر الرعايا الأميركيين إليه، ونجحت في تحقيق هذا المطلب اللبناني المزمن، قبل خمسة أسابيع فقط من قبول اعتماد السفير الجديد لديه.
ربما لهذا بات يصح التساؤل عما إذا كان الرئيس الأميركي قد تبنى، هو الآخر، المنطق الإسرائيلي، مما يحوّل قضية الاحتلال الإسرائيلي للأرض اللبنانية إلى مسألة بحت أمنية، مسقطاً عنها حقيقتها السياسية الساطعة واتصالها المباشر بجوهر »العملية السلمية« التي ما تزال أقله رسمياً تحظى بالرعاية الأميركية وضماناتها الخطية العديدة والمتكررة.
… وإذا ما صحّ هذا التفسير لتركيز كلينتون على مسألة الأمن في لبنان يصبح حتمياً أن نفترض أن وزيرته التي حطت في تل أبيب فجر اليوم ستناقش مجمل الأوضاع في المنطقة انطلاقاً من »فلسفة« بنيامين نتنياهو التي تبدأ بالأمن وتنتهي به وتلغي الأبعاد السياسية لجوهر الصراع فتقزّمه وتجعله مشكلة يمكن حلّها بمزيد من العنف، وتحتاج إلى مزيد من الكوماندوس وليس إلى المفاوضات والمؤتمرات والاتفاقات الدولية والموفدين الأميركيين رفيعي المستوى.
والحقيقة أنه منذ غياب وارن كريستوفر عن المسرح سقط الهامش الذي كان يميّز السياسة الأميركية في المنطقة عن السياسة الإسرائيلية، خصوصاً وأن الوزير السابق كفّ عن التجوال بين العواصم هنا، ولا سيما بين تل أبيب ودمشق، مباشرة بعد مشاركته أو »تورّطه« في »تفاهم نيسان«، الذي يبدو وكأنه الآن موضع إعادة نظر أميركية تحت الضغط الإسرائيلي المباشر »للتحرّر« من قيوده السياسية التي تلجم حرية الحركة العسكرية »لأقوى جيش في المنطقة« من أجل توفير الأمن المطلق لإسرائيل بالقضاء على كل مَن يهدّدها أو يفكّر بتهديدها ولو بالتمني!
وبعد تعيين أولبرايت خلفاً »للمحامي العجوز« الذي استقبلته المنطقة عموماً، ودمشق على وجه الخصوص ومن موقعها الحاكم في »العملية السلمية«، في 22 زيارة خلال أقل من أربع سنوات، فإن القرار الأول ل»المرأة الحديدية« كان مرتبطاً بل ومعبراً عن التحول الذي كانت قد شهدته المنطقة مباشرة بعد المجازر الإسرائيلية في قانا والتوصل إلى »تفاهم نيسان«، وهو التحول المتمثل باكتساح أقصى التطرف سدة السلطة في إسرائيل والهزيمة الساحقة التي مُني بها شيمون بيريز وحزب العمل ومشروعه المتطابق إلى حد كبير مع المفهوم الأميركي »للسلام في الشرق الأوسط«.
وإذا كان نتنياهو قد ملك الجرأة الكافية للتنصل من التزامات سلفه، بما فيها اتفاق أوسلو البائس، فإن الإدارة الأميركية القديمة المجدّدة والمختلفة عن ذاتها، لم تبد كثيراً من التمسك بتلك الالتزامات وأعطت نفسها حرية تعديلها وتحويرها بما يتناسب مع »الوقائع الجديدة« على الصعيد الإسرائيلي، وأبرزها نسف سياسة الشرق أوسطية واستبدالها ببرنامج الليكود وبطله الجديد الذي يقدم الأمن على السلام، بل ويجعله شرطاً لسلام ما لا تبقى له أية ضرورة عربياً إذا ما تمّ تنفيذ شروطه الإسرائيلية.
إنه الامتحان الأول لأولبرايت في المنطقة الأصعب، برغم أنها تبدو وكأنها بمجملها قد أسلست قيادها للقوة العظمى المفردة في هيمنتها الكونية.
ومع أنها لا تحمل جديداً يرضي أو يغري في جعبتها، فثمة تخوف عربي عام من أن تبدأ من حيث يريد نتنياهو، أي بالقفز من فوق كل ما كان قبله ورمي كل الاتفاقات أو مسودات المبادئ على اتفاقات كان تمّ التوصل إلى إقرارها من قبل سلفه، ودائماً تحت الرعاية الأميركية المباشرة.
إن البراغماتية الأميركية لا تهتم بالنظريات ولا بالعواطف، و»طالما أن نتنياهو هو الأقوى إذن فلا بد من الاعتراف به والتعامل معه بل والتكيّف مع طروحاته طالما أننا لا نملك أن نغيّره أو نبدّله«..
ووفق منطق نتنياهو فإن الوضع الفلسطيني البائس والمنذر باحتمالات تدهور غير محدود ليس أكثر من مشكلة أمنية إسرائيلية ولا حل سياسياً له، بل إن الحل المقترح والمشترط والمطلوب له بإلحاح هو بمزيد من القمع وتوريط سلطة عرفات التي باتت حتى بنظر شعبها المتروك للريح أعجز من أن توفر له الحد الأدنى من الخبز والأمن، ناهيك باستعادة باقي الأرض المحتلة فكيف بالوصول إلى القدس أو إلى الدولة الحلم.
كذلك فإن مشكلة لبنان بحت أمنية يتوجب أن تحلها سوريا بالقوة لحساب إسرائيل التي ما تزال تحتل أرضها، ومن أجل توفير الأمن المطلق للإسرائيليين!
ولعل الافتراق الوحيد بين منطق نتنياهو والمنطق الأميركي الذي يفترض أن تعكسه أولبرايت يتبدى حيال مؤتمر الدوحة: ففي حين لا يظهر رئيس الحكومة الإسرائيلية أي استعداد »للتنازل« عن بعض تطرفه من أجل إنجاحه باستقدام العرب إليه ولو بمذكرة إحضار من أجل اللقاء به، فإن الادارة الأميركية تراه عنواناً لاستمرار نجاحاتها السياسية المجانية في المنطقة، فهي تأخذ من العرب لتعطي إسرائيل، متصرفة بالمنطقة كلها كأملاك خاصة.
من هنا فإن نجاح أولبرايت في فرض جلب العرب إلى مؤتمر الدوحة سيعني انتصاراً إضافياً لنتنياهو، أي سيبدو كأن العرب قد أعطوا آخر ما تبقّى لديهم اقتصادياً وسياسياً من دون مقابل، بينما يستمر نتنياهو في ضربهم لتأديبهم داخل فلسطين وداخل لبنان (وحيثما شاء)، مؤكداً أن المشكلة معهم بحت أمنية وأن حلها بالمزيد من عمليات الكوماندوس والغارات الجوية ونسف البيوت وقتل المشتبه بأنهم قد ينتفضون داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، وحبس شرطة عرفات إذا ما امتنعت عن تنفيذ أوامره العرفية.
ولعل الحكم في لبنان يسمع من وزيرة كلينتون (إذا ما هي تكرّمت بزيارته) توضيحاً لما قصده رئيسها بالإلحاح على مسألة الأمن في لبنان، وهل تتضمن التبني للمنطق الإسرائيلي حول الاحتلال، أم أنها مجرد زلة لسان رئاسية في لحظة دراماتيكية مشهودة؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان