دار الفلك بالعرب دورة كاملة، خلال قرن واحد، فاذا هم حيث كانوا في مثل هذه الايام من القرن الماضي، او دون ذلك بقليل: كانت اقطار مشرقهم تحاول الافادة من انهيار السلطنة العثمانية، مع نهاية الحرب العالمية الأولى للخروج إلى رحاب استعادة الهوية القومية في ظلال الحرية..
.. لكن الآمال التي كانت اشبه بالأحلام سرعان ما تحولت إلى كوابيس: خرج المحتلون باسم الاسلام، ودخل “الكفار” بريطانيين وفرنسيين الارض العربية “كمحررين” ليستعمروها مجدداً، بعد تقسيمها في ما بينهم: فرضت بريطانيا احتلالها على عراق أعيد رسم خريطته، وابتدعت كيانا طارئاً على الجغرافية السياسية للمنطقة باسم “شرقي الاردن” لتقيم امارة هاشمية، تعويضاً للشريف حسين بشخص ابنه الامير عبدالله عن عرش الحجاز، ثم اضافت إلى التعويض جائزة كبرى تمثلت في عرش العراق للنجل الآخر الامير فيصل بن الحسين ليكون ملكاً في بغداد…
بالمقابل مُنحت فرنسا جائزة الانتداب على سوريا، بعد تقسيمها أربع دويلات سرعان ما اسقطها الشعب متمسكاً بوحدة بلاده، في حين اقتطعت الاقضية الاربعة منها (الشمال والشرق والجنوب وبيروت، وقد كانت ولايات او بعض الولايات) لُيقام الكيان اللبناني تحت الانتداب الفرنسي، وفي ظل توازنات طائفية ومذهبية هشة وحنين إلى الارض الوطنية (سوريا الطبيعية)..
كانت بريطانيا العظمى قد استبقت نهاية الحرب العالمية الأولى فأعطت بلسان وزير خارجتها، اللورد بلفور، وعداً للحركة الصهيونية بقيادة هيرتزل، بإقامة “وطن قومي” لليهود في فلسطين (التي لم تكن يهودية في أي يوم..) وعلى حساب اهلها العرب بطبيعة الحال..
لم يعرف “العرب” بهذا “الوعد” الا مع انفجار روسيا بالثورة البولشيفية (الشيوعية) التي أقامت الاتحاد السوفياتي، و”فضحت” الغرب عموماً، وبريطانيا خصوصاً، بكشفها الستار عن وثيقة بريطانية سرية اعطاها وزير الخارجية اللورد بلفور للحركة الصهيونية بان تقيم “دولتها ـ اسرائيل” ـ على ارض فلسطين (وعد بلفور..)
على هذا فان قلة من المسؤولين العرب عرفوا بهذا “الوعد”، ولكنهم بمجملهم لم يعلقوا عليه الاهمية المطلوبة، مفترضين أن “الانتداب” البريطاني على فلسطين سينتهي ذات يوم، وسيكون لأهلها القرار.
لكن “وعد بلفور” سيجد ما يكمله عبر معاهدة سايكس ـ بيكو التي تقاسم فيها البريطانيون مع الفرنسيين المشرق العربي، فكان العراق والاردن (المبتدع) وفلسطين لبريطانيا، وسوريا ولبنان للانتداب الفرنسي.
اليوم، وبعد قرن على نهاية الحرب العالمية الثانية، ونصف قرن على وعد بلفور ومعاهدة سايكس ـ بيكو نرى لمنطقة المشرق العربي خريطة جديدة تتوسطها “اسرائيل” ـ كقوة عظمى ـ وتتناثر من حولها مجموعة من الدول العربية المنهكة إلى حد التمزق..
باتت اسرائيل “وريثة الاستعمار الغربي” وتحولت من “ربيبته” إلى شريكته.. ولأنها على “ارض المشرق” فقد فوضت إلى ذاتها، بالرعاية الاميركية، القرار في شؤونه، بدءاً من مصر، إلى سوريا ولبنان، وصولاً إلى العراق وما دونه في شبه الجزيرة العربية وصولاً إلى سلطنة عمان، التي كان نتنياهو “ضيف الشرف” فيها قبل اسابيع..
لم يعد القرار في شؤون العرب، دولاً وشعوباً، قراراً عربياً:
لا حدود مصر الدولية هي حدودها التاريخية، ولا حدود سوريا، ولا حتى حدود لبنان، فضلاً عن الاردن الذي استولد لتسهيل استيلاد اسرائيل واستخدم بين 1948 و1967 كخط فصل، ثم اكملت دولة العدو الصهيوني احتلال الضفة الغربية، التي تحاول ـ يومياً ـ قضم بعض اطرافها، بما في ذلك القدس الشرقية، لتكون العاصمة العتيدة لدولة الاحتلال الاسرائيلي.
القرارات الدولية وقوات الطوارئ الدولية المنتشرة على حدود لبنان وسوريا، وبالمقابل معاهدة الصلح مع مصر ـ السادات، هي حدود “العرب” مع الكيان الاسرائيلي.. وخرق هذه الحدود بمثابة اعلان حرب على القرارات الدولية النافذة!
وبالتالي فان هذه الارض العربية تبقى مفتوحة امام اسرائيل التي اقيمت بقرار دولي على ارض عربية (فلسطين) لم يكن اليهود يشكلون فيها الا اقلية من اهلها عبر التاريخ.
بالمقابل، وكضمانة لسلامة الكيان الاسرائيلي فان الوحدة او الاتحاد او أي نوع من التكامل بين الدول العربية ممنوع… وحين اقدمت مصر بالقيادة التاريخية جمال عبد الناصر وسوريا ـ شكري القوتلي ـ انجاز الحلم التاريخي بإقامة دولة الوحدة العربية ـ الجمهورية العربية المتحدة ـ تكالبت عليها دول العالم جميعاً، شرقاً وغرباً، لتهديم هذه الدولة الوليدة التي كانت تحتاج زخماً وكفاءة في الإدارة وايمانا بقضية الوحدة يتغلب على الكيانية والاقليمية.. لكي تدوم وتقوى معلنة بزوغ فجر عربي جديد للمستقبل العربي.
الوطن العربي حالياً “اسطورة”!
انه مِزق من “الدول التابعة” بمعظمها للغرب، وفي بعض الحالات لنوع من التحالف او التواطؤ الدولي في غياب اصحاب الشأن.. ولعبة المصالح (التي حلت محل الاستعمار القديم) هي التي تحكم مواقع النفوذ، فتعطي الغرب الغني بالقيادة الاميركية الحصة العظمى، مع الأخذ بالاعتبار مصالح بريطانيا وفرنسا، بغير أن تستفز روسيا التي ورثت الاتحاد السوفياتي من دون إمبراطوريته ومعها الشيوعية.
من اليمن حتى المغرب تتوزع الولاءات (حتى في غياب القواعد العسكرية) بين الولايات المتحدة وبعض عواصم الخبرة الدولية ـ بريطانيا وفرنسا ـ، بينما شعوب هذه المنطقة تائهة عن مستقبلها، تارة بتمجيد ماضيها الذي لن يعود، وطوراً بحماية حاضرها الذي تعجز عن صنعه بإرادتها فترهنه لدى اصحاب القرار.
لذا فان اسرائيل، مكشوفة او مموهة بالستارة الاميركية، تكاد تكون شريكة، ظاهرة او ضمنية، في أي قرار عربي: من العسكر إلى الصناعة والزراعة والتعليم والثقافة فضلاً عن العلاقة مع الدول الاخرى.
أن رئيس حكومة العدو الاسرائيلي يتباهى اليوم بأن معظم العواصم العربية مستعدة لاستقباله، وجاهزة لقبول سفارات لكيانه فيها..
تسقط سهواً من القاموس السياسي العربي كلمة “فلسطين”، وان حضر تعبير “السلطة الوطنية” في رام الله التي لا سلطة لها حتى على شرطتها، والتي يحاصرها جيش العدو الاسرائيلي وينفذ عمليات قتل المجاهدين فيها على مدار الساعة..
أين الوطن العربي، اليوم؟ والي اين منها؟
إن دولاً عديدة من دول هذا الوطن تكاد تندثر او تفقد دورها نتيجة الحروب فيها وعليها (العراق، سوريا، اليمن ، ليبيا الخ)..
والدول الباقية معطلة الدور، او عاجزة عن القيام بمتطلباته الثقيلة التي ستلزمها بالتصادم مع المصالح الاميركية الواسعة وأعظمها قوة وجهوزية: دولة اسرائيل!
بل أن الكثير من الدول العربية تخاصم بعضها البعض.. فهناك من اقدم على اتخاذ قرار كبير ـ اكبر من قدراته بكثير ـ هو “طرد” سوريا من جامعة الدول العربية (وهي احدى الدول المؤسسة لهذه الجامعة المعطلة الآن عن أي دور ..)
وهناك من أقدم على شن حرب تكاد لا تنتهي على واحدة من أقدم دول الارض، وهي اليمن.. وهي حرب مستمرة منذ سنوات، وتكاد تقضي على اسباب الحياة فضلاً عن ابناء الحياة في اليمن السعيد.
فأما العراق فمغيب تحت ركام عصر الدكتاتورية والاحتلال الاميركي وتداعياته التي فجرت فيه الفتنة الطائفية، من جديد، مما يعجزه عن تشكيل حكومته الجديدة..
..وأما ليبيا فقد سقطت او أُسقطت بالضربة القاضية بعد اسقاطه واعدامه بتلك الطريق الوحشية..
…ولبنان يحاول الآن رد العدو الاسرائيلي عن حدوده التي “تحرسها” قوات الامم المتحدة …لكي تطمئن اسرائيل إلى أن المقاومة فيه لم تقتحم مستعمراتها، وصولاً إلى جنبات احتلالها في فلسطين..
مع ذلك، وبرغم ذلك، فمن واجبنا الوطني والقومي أن نتفاءل:
فأمتنا قادرة على استعادة قرارها، وبناء غدها الافضل، مهما كانت المصاعب.
انها امة مؤهلة لصنع المستقبل الافضل..
تفاءلوا بالخير تجدوه..
وكل عام، وأنتم بخير!
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية