الصور التي خرجت من مؤتمر القمة الأوروبية العربية قالت الكثير. قالت أكثر مما قاله رؤساء وأعضاء الوفود والمعلقون والمؤثرون من صانعي الرأي والمتطفلين عليهم. صور أمن المؤتمر، أمن القادة والمشاركين من أعضاء الوفود وأمن القاعات وأمن الإعلاميات والإعلاميين، أمن الركائب والسفر ومداخل المدينة ووسائل الاتصال، كل هذه الصور وغيرها قالت الكثير عن الإرهاب موضوع المؤتمر والشغل الشاغل للقادة المشاركين والغائبين وموظفيهم والأجهزة المكلفة بحماية المسئولين والمؤسسات في كل الدول المشاركة في المؤتمر والنسبة الغالبة في المجتمع الدولي عموما.
أهمية الصور ليس فقط فيما قالته وتقوله ولكن أيضا فيما لم تقله أو لم تفلح في التعبير عنه بالقوة اللازمة والفهم الصحيح. عرضت الصور لقاعة هائلة لا أذكر أني رأيت قاعة مؤتمرات بهذا الاتساع. يتفاجأ الناظر بالصورة فتتعدد أمامه الاحتمالات والتفسيرات على نحو أتخيله كالتالي:
أولا: هذا الفراغ الرهيب الذي يتوسط القاعة يعكس في ذهن المراقب مسألتين في وقت واحد. بداية يعكس القناعة السائدة في دوائر العصف الفكري ومراكز البحوث ومجالس الشؤون الخارجية بأن النظام الدولي في حالته الراهنة يفتقر إلى قيادة تملأ هذا الفراغ، سواء كانت هذه القيادة دولة عظمى واحدة أو توازن بين عدد من الدول العظمى. إن استمرار الفراغ على هذا النحو، كما ظهر في الصورة، يعني أن طرفي هذا المؤتمر وأطراف مؤتمرات أخرى وآخرها مؤتمر ميونيخ للأمن لا شك يجدون صعوبة في تسوية القضايا الشائكة في علاقات الدول. قضايا كثيرة لن يجري حسمها وستبقى عنصرا سلبيا ومؤثرا في مناخ العلاقات الدولية. المسألة الثانية التي يمكن أن يعكسها هذا الفراغ الذي يتوسط القاعة هو التأكيد بأن الهوة الفاصلة بين مجموعة دول متقدمة ومجموعة دول متخلفة أوسع كثيرا من كل آمال سدها أو على الأقل تضييقها.
ثانيا: كشفت الصور المأخوذة خلسة أن الدول الأعضاء في كل مجموعة ينقصها الوفاق والاتفاق. جاء بعضها يحمل على أكتاف زعمائه أعباء مشاكل لا علاقة لها بالقضايا المطروحة على هذا المؤتمر. المثال البارز بقسوة جسدته سلوكيات الوفد البريطاني ورئاسة الاتحاد الأوروبي. بدا واضحا أن أزمة البريكسيت قد تجاوزت حدود طاقة احتمال المفاوضين. وفي الوقت نفسه تسببت في أن يكشف الاتحاد الأوروبي عن حالة ضعف تعتريه وقد تعيش معه طويلا إذا لم يحل بسرعة الأزمة ويمحو تداعياتها وبخاصة في دول هشة ومترددة كما في شرق ووسط أوروبا. يوما بعد يوم يتسرب إلى دول عديدة في القارة الأوروبية وخارجها أن بريطانيا لن تعود بعد هذه الأزمة إلى حالتها أو مكانتها أو حتى مكانها في عالم القيادة الدولية. أضيف من عندي اقتناعي الشخصي أن الاتحاد الأوروبي نفسه لن يعود إلى الأمل في أن يحقق ما قام من أجله. لا يجب أن ننسى أن سباقا هائلا بين روسيا والصين والولايات المتحدة قد انطلق بالفعل، بدأ ناعما ولن يبقي هكذا طويلا، وأن جولته الأولي سوف تكون في أوروبا طبقا لتقاليد وقواعد الانتقال في النظام الدولي خلال القرون الأخيرة. وفي ظني أن أوروبا لن تكون جاهزة حتى لأداء وظيفة حماية نفسها ضد تجاوزات المتسابقين الثلاثة على أرضها وفي بحارها وأجوائها.
ثالثا: قرأت في الصور أن دولا عديدة مشاركة في المؤتمر لم تفلح في إخفاء نوازع التشرذم والخلاف سواء في داخل مجموعتها أم في علاقاتها بدول في المجموعة الأخرى. العرب جاؤوا مختلفين على مسائل عديدة وإن اتفقوا على إخفاء عدم اتفاقهم على مسائل أخرى لعلمهم بأن الأوروبيين لن يسامحوهم لو أثاروا قضية خلافية بعينها. مثلا ما كان يمكن أن تقبل أوروبا أن تظهر ضعيفة في موقفها الرافض للسياسة الأمريكية تجاه اتفاقية إيران النووية إذا تركت بعض العرب يفرضون على البيان المشترك رأيهم في إيران بالصراحة والغضب الذين يفوحان في تصريحاتهم وأجهزة إعلامهم..
رأينا أيضا آثار الشقاق الداخلى على وجوه الفرنسيين والإيطاليين. لم ندرك في سنوات أوج العولمة وصعود أفكار الوحدة الأوروبية وبدء صعود الصين وعودة روسيا أن الاستعمار الأوروبي سوف يحشد قواه ويستعد لغزو أفريقيا مرة أخرى وتثبيت مواقع له فيها أحيانا تحت شعار مكافحة الإرهاب وقبل أن يستقر المستعمرون الجدد. السباق على إفريقيا تجدد بالفعل ومنذ اللحظة الأولى غرس الوقيعة بين دول أوروبية أعضاء في مشروع الوحدة الأوروبية وبين الدول العربية الحريصة على أن تلعب ورقة الاستعمار مستخدمة ورقة الدين وأوراق المال ومستعينة بشركات مرتزقة أجنبية. دخلت أيضا مهرولة إسرائيل ودول إقليمية أخرى. لا أحد من بين كل هؤلاء مستعد لأن يتساهل في حقه في أن يشترك في عملية نهب جديدة للقارة السوداء. رأينا الحليفين المتجاورين الشريكين في تأسيس مشروع أوروبا الموحدة إيطاليا وفرنسا مشتبكتين في نزاع حاد للإجابة عن السؤال: من يملك ليبيا؟. الاجابة لن تقتصر على روما وباريس فهناك في القاهرة وتونس والجزائر وموسكو وأنقرة ولندن وعواصم خليجية والخرطوم وصحراوات مالي والنيجر وتشاد من يريد أن يكون طرفا في الإجابة.
بعض هذه العواصم والبوادي تشجع الإرهاب وتمول ميليشيات من المرتزقة المسلحة وشاركت في هذا المؤتمر معلنة بالصوت والصورة أنها تبارك الفقرة عن مكافحة الإرهاب في البيان الذي سوف يصدر عن المؤتمر.
رابعا: توقفت طويلا أمام ملاحظات أبداها أكثر من مفاوض مشارك في أعمال هذا المؤتمر حول ضرورة مراعاة كل طرف للثقافة الشعبية للطرف الآخر. لا شك أن الاختلافات التفصيلية كثيرة بين الثقافتين الأوروبية والعربية، ولكنه صحيح أيضا أن في أقاليم عديدة في أوروبا توجد ثقافات محلية جدا تؤثر في نتائج الانتخابات وتظهر في نمو الحركات المتطرفة وطنيا أو قوميا أو أيديولوجيا، وبعضها يعطل إطراد عملية التنمية عموما والسياسية خصوصا. تابعت الأسبوع الماضي بدرجة من الانبهار المختلط بالسخرية خلاف إيطاليا وفرنسا على من منهما يحق له الاحتفال بمرور خمسمائة عام على وفاة ليوناردو دافنشي. إيطاليا وكتب الفن والتاريخ تسجل أنه إيطالي، فرنسا وسجلاتها تؤكد أنه مات في فرنسا تحت اسم ليونارد وليس ليوناردو وبالتالي يحق لفرنسا الاحتفال بذكراه. أتساءل بيني وبين نفسي هل يختلف هذا النزاع الذي يهدد العلاقة بين حليفتين عن نزاعات دموية بطول التاريخ بين دول عربية حول مسائل مشابهة وبعضها كان موجودا في المؤتمر ولكن مختفيا تحت عناوين وهمية أو بأسماء مستعارة.
انتهت مشاهدتي لصور وخرجت بانطباعات سوف تجد ما يفندها أو يؤكدها في ما سوف اقرأه من انطباعات غيري. أما انطباعاتي فأهمها أولا: أن الفجوة بين التقدم والتخلف في عالم اليوم صارت أكثر اتساعا من الفجوة التي كانت يوم بدأت أهتم بالسياسة الدولية وأفكار التحديث. ثانيا: أننا في إفريقيا مقبلون على حالة جديدة من “السعار الاستعماري”، حالة تندرج فيها دول صغيرة كانت هي نفسها إلى عهد قريب جديد مستعمرات أو أقاليم تعرضت للنهب الاستعماري. ثالثا: تعود، أو لعلها بقيت وإن مستترة، فكرة أو حكمة “رسالة الرجل الأبيض”، تعود لتوجه أحيانا أو لتبرر في أحيان أخرى التدخل الأوروبي في شؤون الدول السمراء، وفي طياتها قيم تذكرها جيدا الأجيال التي عاشت بعض سنوات من الاستعمار الغربي. تذكر ولا شك من تلك القيم النفاق والمعايير المتناقضة والكذب الصريح والعنصرية واستخدام الفتن الطائفية أو تشجيعها. هل بيننا من ينكر الحال التي آل إليها العراق الشقيق على يد الاحتلال الأمريكي وطلائعه من السياسيين العراقيين أو الأحوال في بلاد أخرى عربية وإفريقية وفي أمريكا اللاتينية تتعرض حاليا لتدخلات من أنواع شتى. رابعا: أن معظم السياسيين العرب لم يستقروا بعد على تبعية جديدة، أو ما يسمى بعلاقة اعتماد جديدة تضمن لهم الحماية والنصيحة. هذه كانت عادة سياسية شرق أوسطية منذ قرون، ولم تختف. أما السبب في الحيرة السائدة حاليا في البحث عن مصدر خارجي واحد وثابت للأمن وقيادة التنمية أو إعادة توجيهها فسيكون غالبا حال الفراغ في القمة وحمى السباق الثلاثي نحوها، وهنا لم أرى في الصور اختلافا كبيرا في مواقف طرفي المؤتمر، ولكنى رأيت وبوضوح نقص في الثقة العربية بصلاحية أوروبا لهذا الدور، دور الحماية والتوجيه، سواء في الوقت الراهن أو المستقبل المنظور.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق