ليست الثورة نزهة او “كزدورة” في أوقات الفراغ، ولا هي “فورة غضب” تنتهي بترضية معنوية وقبلات نفاق على الخدين..
الثورة تعبير واع بأسباب الغضب وارادة بضرورة تغيير الاوضاع البائسة التي تتهدد الانسان في كرامته ومعها لقمة عيشه التي تشغله في يومه حول غده ومستقبل ابنائه.
ومن غرائب عصرنا أن الدول العربية الاعظم ثروة، بنفطها، (السعودية، مثلا) لم تعترف يوماً بأن بالملايين من “الرعايا” المخضعين لحكم الاسرة المذهبة والذين يعيشون في البلاد التي انجب بعض بيوت الفقراء من اهلها رسول الله النبي محمد بن عبدالله.. كما أنجب اهلها، عموماً، السرايا الأولى في جيوش الفتح..
وليس الا مع نهاية القرن الواحد والعشرين، وبعد أكثر من الف واربعمائة سنة على رسالة الاسلام، وبعد أن اندلعت الثورات في مغارب الارض العربية، كتونس، وبعدها الجزائر، ثم في السودان، وصولاً إلى المشرق في لبنان ومعه عراق الرافدين، حتى انتبهت الاسرة الحاكمة بالسيف إلى أن من حق رعاياها أن يتنفسوا بلا رقابة “المطاوعة”، ومن حق نسائهن أن يتولين قيادة سياراتهن.. بغير محلل!
بالمقابل، فان هؤلاء “الرعايا” العرب الذين قسمت الدول الاستعمارية وبالذات بريطانيا وفرنسا، بلادهم ضد ارادتهم وفي تحد معلن لوطنيتهم واعتزازهم بأرضهم ذات التاريخ، يشعرون اليوم أن من حقهم أن يعودوا إلى العصر فيستعيدوا بلادهم وحقوقهم فيها وحقها عليهم في تحريرها.
…وهاهم العرب يستعيدون بلادهم ويحاولون تأكيد جدارتهم بحفظها وبناء مستقبلها الافضل عبر الصبر.
عن العرب الافارقة..
إن شعب الجزائر الذي دفع دماء أغلى ابنائه وبناته من اجل استعادة هويته العربية التي كانت وبقيت هويته برغم الدهر الطويل للاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي دام حتى 20 ايلول 1962 حين قامت جمهورية الجزائر الديمقراطية بقيادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية وانتخب شعبها احمد بن بللا كأول رئيس لهذه البلاد التي استعادها شعبها بدماء مليون من الشهداء، كذلك فان تونس التي شهدت اول انتفاضة عربية قبل عشر سنوات مع استشهاد البوعزيزي، قد اسقطت حكم العسكر بقيادة الجنرال زين العابدين بن علي الذي هرب مع زوجته الراقصة وجواهرها وكنوز الذهب، ليموت في السعودية..
وها هي تونس اليوم قد انجزت اعادة بناء نظامها الديمقراطي وانتخبت رئيساً جديداً وسط منافسة محترمة بين مجموعة من المرشحين.
والرئيس الجديد قيس سعيد شهادة لشعب تونس ووعيه وحسه الديمقراطي الذي جعله يندفع لانتخاب رجل قانون محترم ذي ثقافة عالية وتجربة ممتازة في مجال العمل العام (جامعة الدول العربية..)، وعبر معركة ديمقراطية تنافس فيها مع اكثر من مرشح.
ومن اسف فان علينا تجاوز ليبيا التي غيبتها الصراعات العبثية على السلطة في بلد منقسم على ذاته، وكأنما يراد اعادته إلى ماضي المملكة التي كانت بولايات ثلاث (شرق ـ بنغازي ـ وجنوب ـ سبها ـ وغرب ـ طرابلس).. وتخضع لاحتلال ثلاث دول غربية: ايطاليا في طرابلس، وفرنسا في سبها، والولايات المتحدة الاميركية في الشرق وتحديداً في طبرق وجوارها بقاعدة عسكرية فخمة، وتأثير سياسي واقتصادي على “المملكة” ككل.
والحرب التي تحرق ليبيا، الآن، بشعبها ومدنها وثروتها المحترمة من النفط والغاز، “قضية مفتوحة” امام الامم المتحدة التي عينت موفد دوليا، سبق أن شغل منصباً وزاريا في لبنان، وهو من كبار المثقفين.
وبرغم الصعوبات الجمة، فقد انتصر شعب السودان بثورته على الدكتاتور عمر البشير، مما اجبر الجيش على التحرك لخلعه، خضوعاً للإرادة الشعبية. وبعد مواجهات حفلت بشي من العنف امكن استنقاذ الثورة الشعبية والتوافق على حكومة مشتركة بين الجيش والثوار..
الشعب “يسقط” نظامه الطوائفي
أما في المشرق العربي فان لبنان يشهد انتفاضة شعبية رائعة، وحدت شعبه الذي فرض عليه الانقسام بالأمر، وعلى قواعد طائفية ومذهبية، وزعت على اساسها المناصب القيادية مع تحصين موقع رئيس الجمهورية بدعوى تأمين الاقليات الطائفية في لبنان، وطمأنتها إلى دوام الكيان بالرعاية الدولية المستمرة، حتى لو تبدلت الادوار وتم التسليم بقيادة الولايات المتحدة للغرب عموما، والعرب ضمنه، وبين اهدافه المقدسة حماية الكيان الاسرائيلي وشهيته المفتوحة على التوسع.
وها هو هذا البلد الجميل، الذي طالما تغنى به الشعراء وكبار المطربين والمطربات، يعيش الذكرى الخامسة والسبعين لاستقلاله السياسي ينتظر، عبثاً، تشكيل حكومة جديدة، بينما المجلس النيابي مغلق، ورئيس الجمهورية الذي أسلم القيادة لصهره (وزير الخارجية الدائم منذ دهر) جبران باسيل، يتهرب من تحديد موعد للاستشارات الملزمة لتسمية من يكلف بتشكيل الحكومة الجديدة، بعد استقالة رئيس الحكومة السابقة سعد الحريري واعتذر عن قبول تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة.
لا أحد يدري إلى متى سيستمر الفراغ وسيظل لبنان بلا حكومة تحاول انتشاله من الوهدة التي انحدر اليها بأفضال طبقته السياسية والتي من أخطر نتائجها الازمة الاقتصادية التي يعيش شعبه تحت وطأتها.
الجرح العراقي المفتوح..
أما العراق فيبقى الجرح المفتوح في جسد الامة العربية: شعبه في الشارع منذ اسابيع، يملأ ساحات بغداد وكربلاء والناصرية و…
أما حكومته الائتلافية فتبدو عاجزة، يهتز ائتلافها الهش، ويتجاهلها وزير الدفاع الاميركي خلال زيارته لبعض القواعد العسكرية الاميركية في بعض انحاء العراق.
ليس من وسيط عربي مؤهل لبذل مساعيه الحميدة من اجل التوفيق بين الاطراف السياسية (والمذهبية)، في ظل تمايز موقف المرجعية الشيعية العليا في النجف عن مواقف الاطراف السياسية التي تتلهى بصراعاتها، ودعوتها الملحة إلى ضرورة الاتفاق على حكومة جديدة في اسرع وقت… بينما مقتدى الصدر متردد في الانتساب إلى أي معسكر، كما في الضغط لإنهاء الفراغ المدوي في السلطة.. بينما الشعب في الشارع لا يغادره.
وفي الافق ترتسم معالم الصراع الاميركي ـ الايراني، بينما الشعب العراقي هو من يدفع الثمن.
لهذا كله نفهم اسباب تعسر ولادة الغد العربي الافضل.
لكن الشعب في هذه الاقطار العربية التي طالما حكمها “الاباطرة” من قادة الفرص المذهبة فيها، يحاول حماية حقه في القرار بشأن حاضره، ثم مستقبله بطبيعة الحال.
تنشر بالتزامن مع السفير العربي