كيف السبيل إلى حوار صحي مع فكر متخلف حتى عن الرجعية؟
وكيف السبيل إلى حل معقول ومقبول للأزمة الوطنية في لبنان طالما ظل سائداً ذلك النمط من العقل السياسي القاصر والمستعصي على النمو، وبالتالي العاجز عن فهم بديهيات هذا العصر المذهل وعن استيعاب روحه الوثابة التي تغير العالم بمعدلات مذهلة في سرعتها؟
بتحديد دقيق نوعاً: كيف يمكن للعواجيز من قادتنا وأقطابنا وزعمائنا الميامين، وأكثرهم صحة يشكو من عشرة أمراض (غير التخلف العقلي) أن يتفاهموا مع الأجيال الجديدة؟
ما هي الروابط؟ ما هي نقاط التلاقي؟ ما هي القواسم المشتركة في الهموم والمطامح بين الشباب، وهم للمناسبة الأكثرية الساحقة من مواطني لبنان، وبينهم، هم القلة القليلة الحاكمة المتحكمة، الغنية المحتكرة، الفاسدة المفسدة باعتراف سدنتها وحاشيتها وليس فقط باتهامات الخصوم أو بمنظمة السذج والأبرياء؟!
الذين عجزوا عن فهم معنى الاستقلال قفزموه وأبقوا لبنان في أسار الغاصب والمحتل والدخيل والطامع، موفرين على هؤلاء جميعاً نفقات جيش الاحتلال،
والذين رفضوا، ومارسوا رفضهم لأي نوع من أنواع التطوير سواء في الأسلوب والمنهج أو في الامتيازات وطريقة “توزيعها”، وحتى في الأشخاص.. ناهيك بالدستور والأعراف والقوانين والمواثيق التي ثبت إن الزمان تخطاها فكيف بالناس؟..
والذين يرون في أي تغيير، حتى في اتجاه السير، خطراً على النظام والكيان والأرز الخالد،
.. كيف السبيل إلى “تفهم وتفاهم” مع هؤلاء بأنماطهم المختلفة الذين شقوا لبنان الواحد إلى عشر لبنانات وبيروت الواحدة إلى غربية وشرقية (وربما عما قريب إلى برية وبحرية أيضاً، وشمالية وجنوبية وبين بين!)!
كيف السبيل إلى توازن بين الطموح المشروع لشعب لبنان إلى وطن حقيقي وإلى حياة كريمة وبين هؤلاء الذين تسببوا في منع لبنان من أن يكون وطناً، وحرموا الحقيقة في لبنان، وحظروا الحياة الكريمة باعتبارها من الأفكار المستوردة؟!
ولنضرب أمثالاً ، وما أكثر الأمثال!
*تشتد المطالبة بتعديد قدرات الجيش وإمكاناته ورفع عدده بما يتناسب مع حجم الخطر الإسرائيلي الذي يتهدده (ويخترقه صبحاً ومساء)، وتحقيق التوازن الوطني داخل قيادته.. فتعلو أصوات “التأييد” للجيش بوضعه الراهن، وينافقه المنافقون في ضعفه، ويسبحون بحمد العجز المفروض عليه والذي يشكو منه الجيش نفسه، ويعتبرون تلك الدعوات مروقاً وحطا من قيمة “المؤسسة” وإضعافاً لها بوجه العدو الإسرائيلي!!
*يجأر المواطنون بالشكوى من جنون الأسعار وأطماع المحتكرين والأرباح الفاحشة التي يحققها السماسرة والتجار، والمحسوبية واستغلال النفوذ الذي يمارسه الاقطاع السياسي.. فيجيء الرد اتهاماً بالكفر والالحاد وتحذيراً من انقلاب شيوعي كاد يتم فصولاً لولا يقظة الشيخ بيار الجميل!
*تتصاعد المطالبة بضرورة أن يدافع لبنان عن شرفه الوطني وأن يلجأ لحصنه الحقيقي متمثلاً في انتمائه القومي، ومن شروطه التلاحم مع المقاومة الفلسطينية.. فإذا الجواب إحياء لتاريخ المردة العظيم وإنكار للعروبة والعرب جميعاً (فيما عدا شيوخ النفط منهم وأصحاب الرساميل والمحتاجون إلى بعض الخدمات الخاصة!).
في ظل هكذا اختفاء للمنطق الواحد أو المشترك يصبح طبيعياً أن يلجأ أهل النظام إلى توسيع الهوة بين اللبنانيين بالاستخدام القذر للسلاح القذر: الطائفية..
وهكذا يرفض المسلم كوطني وكتقدمي ويقبل، بل يحاولون إجباره بقوة السلاح على أن يظل مسلماً متعصباً بالجهل وللجهل!
أما المسيحي فهو زنديق وكافر وخارج على المسيح والمسيحية إذا وعى حقيقة وضعه واختار المواطنية بديلاً للطائفية، والنهج الوطني والتقدمي بديلاً للأحقاد الطائفية الموروثة عن عهود الفقر الاستعماري..
… ثم يقولون لك إنها حكاية وزارة وبديل لرشيد الصلح في رئاستها ليس إلا!
ولهذا سيطول بحثهم عن البديل، ثم بديل البديل، ثم بديل بديل البديل، حتى يصلوا – بالحاجة الغالبة وليس بالوعي أو بالقصد أو بالرغبة – إلى نقطة تقاطع مع شباب لبنان،
وإلا… ذهبوا وحدهم إلى الجحيم،
وبقي لبنان وشبابه.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 19 ايار 1974