جاوز الدولار الثمانين، حماه الله من العين، والعمر كله إن شاء الله للدولار والدولاريين الذين يقصّرون من أعمارنا ليزيدوا في عمره… وفي أرصدتهم السمينة في مصارف الغرب!
وفي تقديرات الخبراء، كما في تخطيط حكامنا وقادتنا الميامين، إن الدولار سيواصل قفزاته نحو المئة، وربما جاوزها، لأن القفزة بعد الآن ستصير “عشرة، عشرة” وكانت من قبل درجة ثم اثنتين اثنتين ثم خمسة خمسة.
وبغير أن يكون واحدنا خبيراً في الاقتصاد فإن الممكن أن يعرف أن الزيادة في سعر صرف الدولارهي – بالضبط – معادل النقص في قدرته هو على العيش.
وأخطر من هذا : إن الدولاريين لا يلتهمون رغيف اليوم، واليوم نفسه فحسب، بل هم يلتهمون أساسيات مستقبلنا.
فالأزمة الاقتصادية الخانقة التي نعيش تجاوزت بمخاطرها الداهمة المواطن وشؤون حياته وأحلامه في مستقبلهن لتصيب الوطن نفسه.
لقد عجز هذا المواطن ، بداية، عن الاستمرار في تعليم أبنائه في الخارج، ثم عن تعليمهم في ما اتفق على اعتباره الجامعات والمعاهد والمدارس الراقية.
وعجز، تدريجياً، عن الاستمرار في عيش حياته بالطريقة التي تعودها بدخله “القديم”: ألغى بعض عاداته وبعض متطلبات حياته، ثم أضاف إلى لائحة الكماليات الكثير مما كان يعتبره من قبل بين الأساسيات، شطب على الصداقات المكلفة، توقف عن السهر والأكل خارج البيت، وعن دعوة الآخرين للسهر عنده، استغنى عن الكتاب والصحيفة، أوقف أو باع السيارة الفخمة والمكلفة (هذا بالنسبة للميسور)، أما غير الميسور فعاد صاغراً إلى الأوتوبيس أو إلى السرفيس، ومن لم يعد اليوم سيعود غداً، تحايل على متطلبات البيت والزوجة والأطفال الخ…
على إن هذا كله لم يفده، إذ أن تدهور الليرة لم يتوقف عند حد، وهكذا استمر دخله في التناقص، على رغم زيادة صفر أو أصفار إلى يسار الرقم الأصلي، وصارت المفارقة فاقعة: كلما زادت الأصفار زاد عجزه عن توفير مستلزمات العيش، ناهيك بضمانات الغد،
أما اليوم فالأزمة الاقتصادية تساهم جدياً في “فك” مقومات” الوطن، نفسه،
لقد كان المواطن يفترض أن مشكلته مع نظامه هي مشكلة سياسية مرتكزها ومنطلقها اقتصادي (الحقوق، مطالب الإصلاح ورفع الغبن، العدالة في توزيع موارد الدولة، الإنصاف في الوظائف وفي توفير فرص لتقدم والازدهار للمناطق، توفير الضمانات لمحدودي الدخل وصغار الكسبة من العمال والفلاحين والموظفين، وحتى للشرائح الدنيا من الطبعة المتوسطة).
أما اليوم فيحس المواطن أنه قد خسر بعض الأرض وكل الدولة والعلاقات الطبيعية بينه وبين سائر المواطنين، وبقي له النظام إياه وقد خسر كل بريقه الخلب فلم يتبق منه إلا إفرازاته القاتلة: الحرب الأهلية والليرة المهلهلة والجواز سيء السمعة!
والأهم إن المواطن افتقد الأمان، بمعناه العميق والشامل، في هذا الوطن، أمانه اليوم وأمانه في الغد وفي مواجهة عاديات الزمان.
صار الوطن ذكريات واختفى في مهجع الأحلام لأن المتبقي منه على الأرض يتبدى له في صورة الكابوس… ومنطقي والحالة هذه أن يحاول الهرب منه، إذا توفر له ثمن تذكرة السفر وتأشيرة إلى أي “جهنم أحمر” في الأرض، على حد تعبير صديقنا الأرمني!
جاوز الدولار الثمانين،
وسعر طلقة رصاص الرشاش أغلى بكثير من سعر ربطة الخبز وصحيفة الصباح معاً،
أما أسعار طلقات المدافع، المرتد منها والمباشر، الهاون والهاوزر الخ، فهي بمئات الدولارات (ولك أن تحتسب سعرها بالليرات)،
مع هذا “فهم”، جميعاً، يجدون أثمان طلبات المدفعية والرشاشات (وكواتم الصوت)، ويقذفون كل يوم حمماً أثمانها مئات الملايين، نراها أرغفة محروقة وسكراً وأرزاً وسمناً وزيتاً ولحماً وعدساً وبرغلاً ينثر في الفضاء ونحن جياع،
و”هم” جميعاً لا يتذمرون من غلاء الحرب وتكاليف الموت، ويكادون يستكثرون علينا حق الصراغ ألماً وخوفاً من المصير البائس الذي ينتظرنا وأطفالنا بسبب غلاء تكاليف الحياة.
وأكثر ما يخيف ويضني: إن لا حل ولا أمل بحل، ولا ثمة من هو معني بإيجاد الحل،
والدولار كحبل المشنقة، والليرة مثل الكرسي، يرتفع فتنخفض فنترنح في الهواء كالمشنوق ونكاد نموت اختناقاً،
جاوز الدولار الثمانين،
ومع ذلك يتزايد عدد أغيناء الحرب في البلاد كل يوم،
ولا مخرج من الحرب، ولا مكان خارج ميدان الحرب، فالرغيف لا يحمل جوازاً به تأشيرات صالحة، وسعيك إليه يمنعك من الحصول على التأشيرات اللازمة والحصار تكاملت حلقاته بتزامن ملفت مع تدهور الليرة والحكم الذي استهل عهده بإنفاق معظم ما كان في الخزينة ثمناً للسلاح الذي وجه إلى صدور الشعب في العاصمة والجبل والضاحية التي كانت نوارة،
لمن نكتب هذا الكلام، ولمن نرفع هذه الشكوى؟!
نوع من العبث؟! ضرب من التفنن في التودد إلى الناس والتنطح لطرح همومهم وشكاويهم؟! “فشة خلق”؟!
أبداً، لا هذا ولا ذاك، بل تمهيد لعرض اقتراح غير مكلف،
أن نطالب ميليشياتنا والجهات الممولة بأن “تمنح” الشعب نفقات يوم من الاقتتال (بكل أنواع الأسلحة)، ليتمكن الشعب من الاستمرار على قيد الحياة لكي تبقى هذه الميليشيات ولكي تستطيع مواصلة مهمتها المقدسة في إبادته… فمن تبيد إذا “نفد” الشعب؟!
أعطونا نفقات الحرب ليوم واحد وخذوا تعويض غلاء المعيشة،
خصوصاً وإنكم تأخذون العيشة وأسباب المعيشة وعائدات الغلاء و”رديات” الحرب و”ثمن” السلام الموعود والذي لن يأتي، فإذا ما أتى بعد عمر طويل لن يجد وطناً يحل فيه أو مواطناً ينعم بفيء ظلاله!
للمناسبة: الظل ما زال مجانياً، وكذلك الهواء والشمس وعطر الوردة فمتى تتم مصادرة الجميع؟!
للمناسبة أيضاً: صار قتل المواطن يكلف دولاراً أو يزيد، ومع هذا يقولون أو يتقولون إن الإنسان رخيص في لبنان؟! يا عيب الشوم!!
للمناسبة أخيراً: هذا يعني إن ثمن لبنان كله 10452 دولاراً، وعلى المشترين أن يتقدموا بعروضهم فوراً حتى لا تفوتهم هذه المناقصة التاريخية الفريدة.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 27 كانون الأول 1986