يتخطى القرار الأوروبي، القديم والذي أعيد تأكيده مجددا حول اعتبار القدس »كيانا منفصلا« بموجب قرار التقسيم لعام 1947، قيمته المبدئية الرمزية، من خلال توقيته الذي يعطيه وظيفة سياسية محددة في هذه اللحظة الانتخابية الحاسمة إسرائيليا.
ولأن بنيامين نتنياهو اعتبر نفسه المعني بالإحراج، أقله من خلال اختيار التوقيت للتأكيد على هذا الموقف الأوروبي المبدئي والقديم، فقد ضبط رد فعله، ولم يتصرف بطريقة عصبية كما قبل شهور عدة حين رفض قبول مذكرة أوروبية حول المنتجات الزراعية للمستوطنات الإسرائيلية، مكتفياً بالقول: »إنه أمر روتيني… ولا جديد«!
ثم انه، ولتوكيد محدودية الأثر السياسي لهذا القرار، ذكر بأن »ما لم يعد يحدث في بيت الشرق هو زيارات السفراء ونواب الوزراء ووزراء الخارجية ورؤساء الحكومات والرؤساء«..
ما قيمة القناصل، حتى لو اجتمع منهم عشرة في »بيت الشرق«، يمثلون ولو على مستوى منخفض أكبر الدول الأوروبية وأهمها وأوثقها علاقة بإسرائيل؟!
المهم ان أي دبلوماسي أميركي لم يشارك في »الزيارة«، ولم يصدر عن واشنطن ما يوحي بتجديد التزامها منطوق قرار التقسيم، بل ان الموقف الأميركي المعلن والمصدق بالأكثرية الساحقة في الكونغرس، والقاضي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس في موعد أقصاه شهر أيار 1999، لم يتبدل ولم يسقط منه حرف.. أقله حتى الساعة!
لا يهتم السياسيون المحترفون كثيرا بالمواقف المبدئية والرمزية، إنهم عمليون،
وفي لحظة انتخابية كهذه لا بد لزعيم التطرف من الاندفاع دائما نحو الحد الأقصى، وهكذا يتجاوز نتنياهو رمزية التصرف الأوروبي، على مستوى القناصل، ليعيد التأكيد على الأساس: »إنني أعترض على أن يكون للفلسطينيين عاصمة حتى خارج القدس، حيث أنني أنكر عليهم الحق في دولة مستقلة«.
الإهانة للأوروبيين متعمدة… فنتنياهو يعلن هذا الموقف »الحازم« في وجه المبعوث الأوروبي إلى الشرق الأوسط ميغيل أنخيل موراتينوس، الذي يتكلم أكثر مما يعمل بكثير، والذي يتحرك كثيرا وينتج أقل من القليل.
على أن العرب، المجتمعين على مستوى وزراء الخارجية في جامعة دولهم، والمختلفين على كثير من أساسيات حاضرهم ومستقبلهم، يتلقفون هذا الموقف المبدئي وقد أعادت أوروبا تأكيده »ببالغ التقدير«…
ذلك لا يمنع التمايز: فالعرب يذكرون بمنطوق قرار التقسيم الرقم 181 لعام 1947، الذي يقرر ان القدس بكاملها »منطقة محتلة«، بينما »الفلسطينيون« يركزون على اتفاقهم المنفرد مع الإسرائيليين، والذي يعلق البحث بموضوع القدس الى المفاوضات النهائية التي لا يعرف أحد متى ستكون، وضمن أي إطار، خصوصا في ظل الخلل الفاضح في ميزان القوى السائد الآن.
وطالما أن سقف الموقف العربي قد تحدد، ومنذ زمن بعيد، في شعار »نرضى للفلسطينيين ما يرتضونه لأنفسهم«، فلا بأس من إعلان موقف إعلامي مفاده أن مجلس جامعة الدول العربية يؤكد »دعمه لحق الشعب الفلسطيني في إعلان دولته المستقلة في 4 أيار 1999«.
لا حاجة للتذكير بأن العرب يعرفون استحالة تنفيذ مثل هذا القرار،
ولا حاجة للتذكير أيضا بأن أطرافا عربية أساسية لا تنظر بعين الرضا الى مشروع »الدولة الفلسطينية«، ليس لأنه مشروع غير عملي وغير واقعي فحسب، بل لأنها تدرك أن الإعلان سيكون مناورة سياسية مكشوفة لن تعيش طويلاً، وإن هي أفادت في خدمة طرف أو أطراف بالذات قد تخدم في الصراع الداخلي الإسرائيلي المتمحور الآن حول الانتخابات المقررة في 17 أيار.
ثلاثة مواعيد تزدحم في أيار 1999: القرار الأميركي بنقل السفارة، والاقتراع الاسرائيلي الذي سيحدد من سيقود الكيان الصهيوني خلال السنوات الأربع المقبلة، ومشروع إعلان الدولة الفلسطينية، بغير أرض واضحة الحدود، وبغير سيادة، ووسط اعتراضات واسعة تعلنها قطاعات عريضة من الفلسطينيين ممن أنكرت عليهم هويتهم وحق العودة إلى أرضهم، يستوي في ذلك »المحررة« منها أو التي ما تزال محتلة…
والمطلب الفلسطيني الآن ينحصر، أميركيا، في تعليق تطبيق القانون القاضي بنقل السفارة.
أما القرار الأوروبي فيشكل ضغطا معنويا على نتنياهو لإعلان استعداده لتطبيق الاتفاقات مع الطرف الفلسطيني وأشهرها وآخرها اتفاق »واي ريفر« الذي عقده شخصيا وبرعاية امتدت سهراً طويلاً للرئيس الأميركي بيل كلينتون.
ومع اقتراب مواعيد أيار الخطرة تتزايد المناورات والمناورات المضادة، والعرب شبه مغيّبين عنها لأن كل طرف منهم مشغول بنفسه وهموم مصيره.
وليس إعلان الدولة الفلسطينية واحدا من أسلحة الدمار الشامل، كما انه ليس بالضرورة حاسما في إسقاط نتنياهو أو إخضاعه،
لكنه السلاح المتيسر، وربما الوحيد في ظل الضياع العربي في غياهب الخوف والإحساس الثقيل بالعجز.
والقدس »أقداس«… لكن القوة، السياسية أساسا، هي، بداية وانتهاء، مصدر القرار.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان