تتلهى الطبقة السياسية في لبنان بالتفاصيل اليومية لتداعيات الزلزال السوري المدمّر الذي ضرب المنطقة جميعاً وكشف هشاشة كياناتها وركاكة أنظمتها السياسية وعجز «نخبها» عن تأمين الحاضر وحماية المستقبل.
لا تهتم هذه الطبقة السياسية، التي استولدتها المصادفات ومصالح الخارج، في الغالب الأعم، بصورة مستقبل هذا الكيان المهدّد في وجوده، مطمئنة إلى أن «الدول» التي استولدته هي المعنية بتأمينه ضد أمواج التغيير التي تسقط أنظمة عاتية وتهدد كيانات سياسية كانت تتبدى راسخة.
ولا تنتبه هذه الطبقة السياسية العاقر إلى أن المنطقة جميعاً تُساق إلى حروب الطوائف والمذاهب، بما يمكن للكيان الإسرائيلي ويقدّمه بوصفه «الدولة الوحيدة» ما بين البحر الأبيض المتوسط وبحر العرب… من دون أن يؤثر الطابع العنصري والهوية الدينية الفاضحة على ادّعائها أنها واحة الديموقراطية في هذه المنطقة التي كانت عربية، والتي يتولى ملوك الطوائف وأمراؤها ومهرّجوهم تشويه هويتها العربية الجامعة وإخراجها من العصر بقوة الذهب صانع الحروب الأهلية بالفتن الطائفية.
لقد كانت سوريا بمثابة القلعة بموقعها الاستثنائي الحاكم، وبمتانة التماسك في نسيجها الاجتماعي… فلما عجز نظامها عن قراءة التحولات وتصدى لمقاومة إرادة التغيير بالسلاح، تهدد القلعة السقوط كاشفاً المنطقة جميعاً أمام احتمالات التقسيم بل التفتيت.
وبدل أن تهتم الطبقة السياسية بحماية لبنان توزعت قواها وكتلها ومرجعياتها بحسب ارتباطاتها أو وفقاً لحساباتها الانتهازية أو تبعاً لروح الثأر والانتقام من النظام السوري والتخفف من حقيقة أنه قد ساهم في إنتاجها وتمكينها من السلطة.
هكذا أنزلت إلى الميدان «المذهبية» بعد «الطائفية» ومعها، فإذا لبنان مجموعة كانتونات متصلة ـ منفصلة، وانكشفت «الدولة» التي كانت على الدوام «رمزية» فإذا هي «هيكل عظمي» بلا روح: مؤسساتها متهالكة، خزينتها على حافة الإفلاس، الرئاسات فيها شكليات وألقاب أكثر منها مؤسسات سلطة جامعة.
ينتبه رئيس الدولة إلى أنه ليس مركز القرار، فيتفرّغ للأسفار والنصائح الأبوية…
وينتبه الناس إلى أن حكومتهم هي عبارة عن «ائتلاف» الحكومات المتنافرة المختلفة، فكل وزير يكاد يكون حكومة بذاته، وبعضهم خصوم للبعض الآخر، والتحالفات أسطورة تتهاوى أمام المصالح الشخصية أو الحزبية.
مجلس النواب معطل بالأمر، لأنه إذا ما اكتمل نصابه تفجّرت مؤسسته الجامعة.
ولكي يكتمل المشهد الكاريكاتوري المفجع لا بد من الإشارة إلى هذا الجدل المهين حول قانون الانتخاب. وبغض النظر عن أن الطبقة السياسية تبدّل قوانين الانتخاب كما تبدّل ثيابها الداخلية، فتبتدع لكل دورة قانوناً يناسب توازناتها في تلك اللحظة، فإن هذا التبديل يفضح حجم احتقار الطبقة السياسية «للشعب» بما هو مجاميع من «الناخبين» الذين تفرض «الديموقراطية اللبنانية» تقسيمهم بحسب طوائفهم، ثم بحسب مذاهبهم، ثم بحسب مواقع تجمعهم، لكي تضمن تدمير أي رابط بينهم كأبناء «شعب» واحد.
في هذا الخضم من المباذل وصراع الكراسي وتضارب النصائح بين سفير أجنبي مقيم ومسؤول أجنبي وافد، والرسائل التي يتبرع بنقلها الباحثون عن دور من رجال المال والأعمال العاملين في خدمة أهل النفط، تختفي تماماً القدرة على القرار…
(…)
هل من الضروري التذكير بأن الوحدة الوطنية لا تحمى بالسلاح كما لا تحمى بالنفاق والتكاذب… وكيف يمكن حماية عناصر الوحدة طالما أن الكل يخرج منها إلى كانتونه الطائفي؟ وأين تقع الدولة على خريطة هذه الكانتونات الطائفية والمذهبية؟!
يكاد الخوف على الغد ومن الغد أن يكون الرابط الوحيد بين اللبنانيين.
وهذا الخوف يتجاوز لبنان إلى سوريا والعراق والأردن وصولاً إلى اليمن، كما يمتد إلى مصر ودول الشمال الأفريقي جميعاً.
وحدها إسرائيل تتبدى في صورة «الدولة» في هذه المنطقة التي تزلزلها أعاصير الفتنة الطائفية ـ المذهبية…
ومن أسف أن الطبقة السياسية في مختلف هذه الدول، وفي لبنان أولاً، تتبدى ضالعة في الفتن التي تتهدد دولها بالانفراط.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 18 آذار 2013