الحشد أنيق الملبس والألقاب والكلمات، في قاعة أنيقة وحسنة التجهيز (الترجمة فورية!!) في فندق أنيق الموقع والقيافة والأسعار.
اللافتة لبعض منظمات الأمم المتحدة، والحضور من ست دول عربية اضافة الى بعض الموظفين »الامميين« الذين يتقاضون مرتبات انيقة وبالدولار،
عنوان الندوة جليل المعنى انيق المبنى، يتدرج من حقوق الانسان عامة ليصل الى حقوق المرأة انتهاء بحقوق الطفل.
والاسئلة تتزاحم تحت سقف القاعة ثم تتسرب، متى فتح الباب مواربا، لترتمي في الشارع تحت أقدام »السابلة« من الساعين وراء الرزق المجاهدين لاستنقاذه من ميدان »حرب الرئيسين«.
حقوق الانسان؟!
ودور الاعلام في معركة ايصال المرأة الى حقوقها، وتأمين حقوق الطفل؟!
الاعلام؟! كأنما اتم الكل واجباته وبقي الاعلام وحده في قفص الاتهام لتقصيره الفاضح وإهداره حقوق المرأة وتنكره لحقوق الطفل!
نسمع كثيرا عن حقوق الانسان… ولكنها، عمليا وبالمنظور السياسي واحدة من أشرس المعارك التي تخوضها القوة الاميركية العظمى المهيمنة على القرار الكوني، والقوة الاسرائيلية العظمى المهيمنة على القرار العربي، ضد الذين لم ينتزعوا بعد لا حقوق أوطانهم ولا حقوقهم في اوطانهم!
اي اننا نُقاتل ونقتل بالشعار الذي كان يفترض ان يكون سلاحنا في وجه القمع الداخلي والظلم الخارجي!
ما لنا وللسياسة… لنعد الى المرأة وحقوقها ودور الاعلام، لعل الحديث »عنهن« يخفف من جفاف الموضوع والندوة والمتحدثين والسامعين!
* * *
باشرت وأبناء جيلي عملنا في الصحافة ونحن نحسبها »مهنة رجالية«، ثم اخذت الممارسة تؤكد فينا هذا الظن!
فالصحف يصنعها الرجال ليقرأها الرجال، موضوعاتها بمجملها عن الرجال، والمعارك فيها او عليها يشنها رجال محترفون في السياسة او الاقتصاد او المال والاعمال ضد رجال ينافسونهم هنا او هناك.
وفي البدايات لم تكن أسر التحرير (والطباعة والتوزيع والاشتراكات والادارة الخ) تضم في عدادها الا جنسا واحدا، عظيم الخشونة، كثير التدخين، يختلط عنده النهار بالليل والفن بالسياسة والثقافة بالمجتمع والمرأة في كل ذلك »ضيف شرف«.
اما الوجود النسائي فكان رمزيا: اصحاب المطبوعات يميلون الى عدم توظيف الجنس الآخر، والعاملون، وكلهم شرقيو الطباع، لا يحبذون صحبة »الزميلات« في الشغل، وان كانوا يستميتون في طلب نظرة او ابتسامة او موعد من أي فتاة يصادفونها في عملهم.
»معلمي« الاول كان شديد الحذر: توظف الواحدة منهن فتفسد عمل الشباب جميعا. يصير هم كل منهم ان يطلب ودها، وقد ينجح احدهم فيطلب يدها، ويأتي بعد ذلك الزواج والبنون والبنات فنخسر المحرر الجيد ولا يربح المسكين جائزة العائلة المثالية!
اما »معلمي« الثاني فكان في غاية »التحرر«. قال لي وهو يقدم لي »الزميلة الاولى« في حياتي: لا يهمني ما تفعلانه خارج العمل. تحبها تحبك، تعشقك تعشقها، تأخذها الى السينما، تأخذك الى البيت، هذا لا يعنيني، المهم ان تشكلا فريق عمل ناجحا!
لكنه بعد هذه المحاضرة، وقبل ان أغلق خلفي باب مكتبه بادرها قائلا بصوت تقصّد ان اسمعه: لا تنسي موعدنا لسهرة الليلة، سأمر بك عند العاشرة فكوني على الباب!
فأما »معلمي« الثالث، ومن بعده الرابع والخامس، فقد ارادوني ان انظر الى المرأة وأتعامل معها بمنطق إعلاني ترويجي بحت: فصورة المرأة العارية او شبه العارية تزيد اعداد المشترين من الرجال المراهقين، فتيتهم والكهول وصولا الى الشيوخ الذين لم يعودوا يملكون من أسباب المتعة الا… النظر الكليل!
وهكذا دخلت المرأة الصحف من باب الحريم: ممثلات السينما، عارضات الأزياء، ملكات الجمال… وكلهن »بضاعة« مسوّقة تقف خلفها مؤسسات عاتية بإمكاناتها الهائلة وشبكاتها الترويجية العابرة للقارات والأذواق!
ثم دخلت، مرة اخرى، من باب الاعلان: فعنق امرأة جميلة يبيع العقد، وأذناها الرقيقتان تبيعان حلقا من اللآلئ، ووجهها يبيع مستحضرات التجميل، وساقها تبيع الجوارب ومعها الويسكي، اما الساقان معا فتبيعان إضافة الى المايوهات والجينز اصنافا من السيارات، وأما مؤخرتها فلكي تبيع صنفا محددا من السكاير!
لم ينتبه احد للمفارقة الصاعقة: في مجتمعات عربية شرقية اسلامية محافظة، بالرغبة او بالاضطرار، يتم الترويج للبضائع الاستهلاكية بالنساء السافرات حتى من ورقة التوت، المنتظرات على الرصيف من يغويهن بسيكارة او زجاجة مرطبات او الباحثات عن الحب بعد الزلزال بمن يقدم لهن كأسا من خمر معتق!
في مجتمعات رجالها عبيد السلطان في الداخل، ورهائن القوة المهيمنة في الخارج يصعب الحديث عن حقوق الانسان عامة،
من يعطي مَن الحقوق؟!
وكيف تنتزع امرأة »حقوقها« من رجلها الذي لا يملك ان يفكر او يعبر او يغير… اي لا يملك ان يكون رجلا، ولا يملك بالتالي ان يجعلها امرأة حقيقية.
كيف ينتزع السجين حقوقه من السجين الآخر؟
في مجتمع تغيب عنه الحرية لا حقوق شخصية لأي من أفراده،
هنا فقط »يتساوى« الجميع وتعم »العدالة«.
في الشارع، بعد انتهاء الندوة، كانت المشاركات قد عدن نساء.
قالت واحدة لأخرى وهي تشير الى ثوب بحر بحجم قبضة يد فاقع الألوان كالشهوة: سأشتريه!
قالت الثانية وكانت تكمل حديثا قطعته مفاجأة الواجهة التجارية اللامعة: أرأيت صور زميلتنا المتصابية؟! لقد احتلت صدر الصحف جميعا مع اننا كلنا اجمل منها! لكن صديقا لي وعدني بإيفاد محرر ومصور اليوم لإجراء حديث معنا حول حقوق المرأة! فاستعدي بأحلى أثوابك وأغلى مجوهراتك وأكثر كلماتك إثارة!
مصطفى الزين وسروال راما كريشنا..
تفقد الكتابة معناها حين تصير حرفة.
المتعة ان تكتب حين ترغب، وعما تحب، وبقدر ما يحتاج »الموقف« من كلمات، وفي الموضوع الذي ترتاح اليه نفسك.
مصطفى الزين يكتب لمتعته الذاتية، وربما لهذا تظل كلماته مشاعا يغرف منها من يشاء فيأخذ منها ما يرضيه ويترك الباقي.
بين يوم وآخر، يفلت الرجل الذي كان سفيرا فجال في الدنيا وصال وعاد وحيدا كما ذهب، قلمه ليكتب عمن يحب، وفي أمر يجد لديه ما يقوله فيه مما لم يقله الآخرون، مستخرجا من ذكرياته وتجاربه الممتع والمفيد والمسلي والذي يصلح لأن يقدم العبرة والمثل الصالح.
قبل أيام أصدر سفير لبنان الذي »تقاعدوه« وما تقاعد كتابه الجديد: »خواطر في الأدب والسياسة«.
ومع أنني كنت اقرأ هذه المقالات، متفرقة، حين كان ينشرها مصطفى الزين في »السفير«، الا انني استمتعت بقراءتها الجديدة، ربما لان عين »الناشر« كانت مغمضة، ولان الحرفة كانت قد تقاعدت في ساعات الفجر الاولى، مخلية الوقت للمتعة.
في الأدبيات كتب السفير الزين لمحات وقدم وجوها غير معروفة للشاعر الكبير عمر أبي ريشة وكمال جنبلاط والفلسفة اليوغية، وعن وزارة الثقافة والنيابة العامة الثقافية وفي بعض ضروب الفلسفة، الخ…
اما في السياسة فقد كتب عن غورباتشوف والعلمنة والفخ الكيسنجري وأصول الديموقراطية والحكم والموارنة والصراع العربي الاسرائيلي من وجهة نظر آينشتين ولبنان التيوقراطي، ودعوة صريحة الى الحكم الدكتاتوري الخ.. اما الجزء الثالث فقد خصصه مصطفى الزين للبلاد التي احبها وعاش فيها طويلا وتعلم منها وتعصب لتجربتها: تركيا.
ولأن مصطفى الزين يكنّ تقديرا عميقا لمصطفى كمال اتاتورك وتجربته في بناء »الدولة العلمانية الديموقراطية« فلقد حرص ان يوضح بعض الحقائق المجهولة عن علاقته بالاسلام والمسلمين، كما حاول ان يجيب على سؤال يتردد بين الحين والآخر في الاروقة السياسية وهو: هل آن الأوان لظهور أتاتورك جديد؟! لينتهي الى التساؤل: هؤلاء الأصدقاء الأتراك، ما مصيبتهم؟
من ألطف الحكايات التي استشهد بها السفير الزين في بعض المقالات التي يضمها الكتاب، واحدة عن سجين لبناني كان موقوفا في سجن بولو (منتصف الطريق بين أنقرة واسطنبول).
فبعد رسالة من هذا السجين يشكو فيها ظلامته، سألت السفارة عن وضعه، وذات يوم فوجيء السفير بالسجين ذاته داخلا عليه مكتبه ومعه مدير السجن! وقد طلب ونجح في استدانة خمسمائة دولار من السفير بذريعة تأمين اجرة المحامي الذي سيدافع عنه، ثم سأله عن أفضل ملهى ليلي، فأخذ مدير السجن اليه! وفي الصباح تلقى السفير الفاتورة باعتبار الساهرين من ضيوف السفارة. وكانت حجة السجين: الا تريدني أن أحمي سمعة الكرم اللبناني!
على ان قصة السروال للفيلسوف والمتصوف الهندي الشهير راما كريشنا تظل قمة الابداع القصصي لمن يريد ان يتعظ بعبرته،
فقد اتسخ السروال الوحيد الذي يملكه، فغسله ونشره ليلا وبات من دون سروال. جاءت الفئران فقرضت السروال في مواضع كثيرة فلم يعد صالحا لشيء. وفي الصباح تدثر الرجل بملاءة وذهب الى جيرانه الفلاحين يطلب منهم مساعدته لشراء سروال جديد. ولكنهم نصحوه بقطة لطرد الفئران. ولما ذهب اليهم مجددا يطلب طعاما للقطة نصحوه ببقرة لتعطيه حليبا، ولما طلب علفاً للبقرة نصحوه بزراعة الأرض التي أمام بيته فيأكل من إنتاجها ويؤمن العلف للبقرة… وهكذا صار يملك مزرعة، واغتنى فبنى له قصرا فيها وصار رجل اعمال ثم رجل إقطاع.
وذات يوم، جاء »الغورو« يزوره في »الاشرم«، فانزعج من التحول الذي أصابه، ولما سأله: ما هذا يا بني؟! تبين ان كل ذلك قد تم من أجل المحافظة على سروال!
دائما السراويل مكلفة!
المستقبل يزور الماضي..
تعثرت في مشيتها وهي تتقدم نحوه وتعثر بذكرياته وهو يرجع اليها لكي يمنع التصادم بين اليوم والأمس الجميل!
لكأنها تنسل من ذاتها لتستعيد شبابها الاول، بينما هو يقاوم حتى لا يسقط في جب »الشباب الدائم«.
تأملها بكثير من الخشية: لكم بيننا من المشترك!
خاف ان تقرأ أفكاره، وخاف اكثر ان تكون قد »قرأت« الوقائع وعاشتها، فأعاد تركيز نظره على عينيها الناعستين، لكن السحر فيهما كان أقوى من شجن الذكرى. قال في نفسه: لا يعود الماضي الا شبحا، ولشدة ما نخاف منه نبادر الى تدميره فورا. كن عاقلا ولا تتهور فتخسر الحاضر أيضا.
هرب ببصره من الشَعر الى العينين، من العنق الى الشفتين، وارتاح قليلا عند الصدر ثم تطلع الى السقف، وقرر ان يشغل الوقت بأي كلام… لا بد من اغتيال المعنى لكي تتوفر السلامة.
قالت براءتها: من الافضل ان ابدأ من النقطة الصح. لذا جئت اليك.
قال بسرعة أعقبها ندم جارح: لشدة ما تمنيت ان أذهب أنا… اليكم!
لم يصل احد الى أي مكان.
سادت البرودة حتى طغت على الندم، وأخذ يبحث عن كلمات اخرى فلا يجد.
وحين قامت مودعة أخذت معها ما كان تبقى لديه من أشياء الزمن الجميل،
قال بلهجة فيلسوف: من كان بلا ماض لن يكون له مستقبل!
تهويمات
} هلا أوقفتِ دوي الصمت لكي أسمع عتابك!
هلا أغمضتِ عينيك لكي تري ألمي؟!
هلا ذهبت الى البعيد لكى نلتقي؟!
نحن هنا قريبان الى حد التلاصق، لذا يضيع السمع والبصر ولا يتبقى غير الاحساس الثقيل بالتلاقي المستحيل!
} بوجهين دخلتِ علي، بصوتين تحدثتِ، وكان داخل الثوب الأنيق جسدان ضامران. وكنت وحدي.
وحين غادرتِ، غادر معك المكان والزمان، وذلك المكتئب في قلب وحدته.
أرجوك: أعيدي إليّ وحدتي. أنا أسكن الفراغ الآن، وقد كان من قبل يسكنني!
} كان موعدنا الخريف،
كان موعدنا المطر،
كان موعدنا خلف الشمس،
وها نحن نتقارب لنتلاصق على حافة الغياب.
ويسمعنا الناس فيقولون: هذا هسيس أوراق الشجر الذاهبة لكي تعود.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لا تجعل حبيبك نسخة منك. انت تحبه لأنه هو لا لأنه مثلك. فليقل كلمته، وليكن نفسه التي تكملك وتكملها. ان اقترب كثيرا احترق، وان ابتعدت كثيرا تاه. احفظه على بعد نبضتين.