ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الذين في السلطة عصابة واحدة وإن اختلفوا. هم لا يختلفون على مصالح العباد، وليس لهم برامج بذلك ليعدوا الناس بها. لا يهمهم إلا أنفسهم وعائلاتهم والمقربين لهم. خراب البلد لا يعنيهم. الكهرباء دمروها عن قصد. المرفأ وما حوله دُمّر عن قصد أو إهمال متعمد. إذ كانوا يعلمون منذ عقد من الزمان أن في الأمر كارثة. لكنه رغم أن جميع من في السلطة، أو تعاقب عليها، أو خرج منها، كانوا يعرفون ما يجب فعله ولم يفعلوا. يخلقون أزمة من الخبز والمحروقات والأدوية وكل ما يشكّل للناس مادة أساسية للعيش. سمحوا للمصارف بمصادرة ودائع الناس، في مخالفة دستورية وقانونية، حتى أصبح معظم الناس (99%) فقراء حتى ولو كانوا يملكون حسابات بملايين الدولارات في المصارف. فككوا القضاء، وعلى ما يبدو سيفككون بقية أجهزة السلطة البيروقراطية والأمنية، الخ.
هو تدمير ممنهج للدولة. خلال العقدين الماضيين كانت أيام الفراغ في رأس الدولة. سنوات فراغ تزيد عن سنوات ملء الشواغر أو تقاربها. أبقوا مجلس النواب للإشراف على تدمير الدولة. ليس في الأمر فساد أو مخالفة للقانون والدستور وحسب، إنما هو الفراغ في السلطة السياسية للطبقة الحاكمة. عصابة يحركها الجشع والطمع وأكثر؛ إنما الأفظع هو أيديولوجيا اللادولة. يعتبرون أن الدولة غير ضرورية. وإذا شاركوا فإنما للتضليل. هي أيديولوجية دينية-سياسية ونيوليبرالية في وقت واحد. يُفهم الدين بالمقلوب. وتُحمل النيوليبرالية إلى أقصى منطقها. والتمييز بين الدين والنيوليبرالية اجتماعيا في هذه الأيام مستحيل. النيوليبرالية تصغّر حجم الدولة. النتيجة القصوى لمنطقها تصير الدولة إلى صفر. والدين يعتبر أن الذي خلق الأرض وبسطها أولى بتدبير الأمور؛ لذلك لا لزوم للدولة.
الرأسمالية تعتبر أن الدولة بقوانينها ودستورها عقبة في وجه تملّك ما لا يملكون. والدين المتسلّط يعتبر أن في لبنان حق مهدور أو ما يجب أن يُستعاد من الحقوق المفقودة.
هم لا يخرجون عن القانون والدستور وحسب، بل يريدون أن لا يكون هناك دستور وقانون أو أي نصاب للدولة. ما يمارسونه ليس فساداً وحسب، فساداً بمعنى تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، أو جشعاً يتجاوز أصحابه القانون، أو تسلّطاً على حصة أكبر من الدولة. يريدون الدولة بأكملها، بالأحرى اللادولة بأكملها، ليبقى البلد بلا دولة. اللادولة أساس الأيديولوجيا التي يعتنقونها. ليس هدفهم إدارة المجتمع بواسطة الدولة أو السلطة، بل التسلط على المجتمع بلا دولة، تسلطاً مباشراً، لا من خلال مؤسسات الدولة بل من خلال مؤسساتهم هم، المصرفية وغير المصرفية، الدينية وغير الدينية. يكتبون عن الوطن لا عن الدولة. ينتقلون من ازدواجية الدولة والدولة الموازية إلى مرحلة اللادولة التي يسيطرون عليها هم، وإدارة المجتمع باللادولة.
اختلف الفلاسفة والفقهاء في التاريخ حول الوجود والعدم؛ الوجود أو اللاوجود. اللاوجود أو العدم هو في حالتنا الراهنة. الدولة الرسمية المدمرة الملغية. برعت أنظمة الطغيان العربي في تأبيد وجودها عن طريق ازدواجية الدولة. البيروقراطية الرسمية، والأجهزة الموازية، كالأمنية والحرس الجمهوري والحرس الثوري وغيرهما. نحن في لبنان لدينا ازدواجية سلطة بالإضافة إلى سلطة ثالثة هي المصرف المركزي الذي يتحكّم في الكثير من الأمور. والحقيقة أدهى من ذلك، إذ تشكّل كل طائفة سلطة يحكمها أكباشها. كل منها تستطيع أن تعترض على أي أمر مطروح، فيلغى لأن الأمر لا يعود ميثاقياً. يستطيع أكباش الطوائف أن يفعلوا أي شيء ويرتكبوا أي مخالفة دون مساءلة أو عقاب. هم فوق القانون. هم محاطون بخطوط حمر. بعض الموظفين الكبار لا يتبعون السلطة السياسية بل يشاركون في إدارتها. معظم الموظفين الصغار يتبعون أكباش طوائفهم أو رؤساء الأجهزة التي يعملون لديها. نصاب الدولة مفقود. حتى القضاء جرى تجويفه. المجلس النيابي شبه غائب عن العمل، إذ لا ينعقد سوى بضعة أيام في السنة. مجلس الوزراء هو لتصريف الأعمال. رئيس الوزراء المكلف همه بعد التكليف لم يعد التأليف. رئاسة الجمهورية تترنّح في تحقيق ما وعدت به في البداية.
مهمة دولة اللاوجود عندنا هي تسجيل الشكاوى، والفضائح، والكوارث، والدعاوى، الخ…سيل من الفضائح تحكي عنها كل نشرة إخبارية، ولا أحد في اللادولة اللبنانية يساءل. الدولة المدمرة الملغية، دولة اللاوجود، ذات أجهزة أمنية نشيطة، وأجهزة قضائية غيبت نفسها، وأجهزة سياسية فعّالة، كلُّ لطائفتها. ليس للبلد دولة. معنى كل ذلك عجز عن القرار في كل شيء. إنهار معنى الدولة، وانهارت الدولة في وعي الناس، وانهارت في منشآتها المادية وفي عملتها الوطنية. كل ذلك ليس إهمالاً غير مقصود. الإهمال يسير حسب برنامج.
إذا كان دور المصارف، وهي دولة أخرى من جملة لادول لبنان، هو تشليح الناس ما تبقى من ودائعهم، فإن مهمة اللادول الأخرى هي المصادرة. مصادرة أملاك الناس. مهمة تتعدى الإفقار. صار الفقر المدقع ميزة معظم اللبنانيين. لكن بقي في لبنان ما لا تملكه الطبقة الحاكمة من الأملاك العقارية الخاصة والعامة. الخطوة التالية هي المصادرة بالتشليح، تشليح الأرزاق. مصادرة الأموال ثم مصادرة الأملاك العقارية. ثمة من يبيع عقاره شرعاً لقاء بعض ما تستحقه من أجل تأمين متطلبات المعيشة. وهناك من يزوّر مستندات الملكية لكي تنتقل ملكيتها الى من هو أجدر بها. الأوقاف تصير تدريجياً ملكية خاصة، وصولاً إلى الأرض التي نعيش عليها والمساكن التي نسكن فيها. ملكية سوف تنتقل بطريقة شرعية أو غير شرعية (التزوير) إلى أيدٍ أخرى مباركة برأسمال الفائض لدى الطبقة العليا التي تشكّل أقل من واحد بالمئة من اللبنانيين. أموالهم هُرّبت لكن ودائع الصغار صودرت. الرساميل سوف تعود لتستبدل بأملاك عقارية. هي كما سماها ديفيد هارفي، أكبر وأهم المنظرين الماركسيين في هذا العصر: مصادرة أموال الناس المنقولة وغير المنقولة من أجل نقل ملكيتها. مع هبوط الطبقة الوسطى إلى بورجوازية صغيرة، والبورجوازية الصغيرة إلى بروليتاريا (العمل اليومي المأجور) والبروليتاريا إلى بورليتاريا رثة (لا عمل ولا أجور)، سيكون الفقر سيد الموقف. وستكون لقمة العيش أولوية على ما عداها. سوف يُجبر الناس إلا المحظوظين منهم على التخلي عما يملكون من الملكيات العينية، لقاء ما يسد الرمق. مجاعة مستترة أو ظاهرة. ونقل ملكيات كما حصل في العام 1916.
إن خلق دولة اللاوجود هو مقدمة ضرورية للمصادرة بالتشليح. التشليح على أنواعه قبل المصادرة على أنواعها. في صحراء السياسة كما في الصحراء الجغرافية تسود بداوة ترتكز على الإغارة والهجومات المتبادلة. كل قبيلة (طبقة، طائفة، فئة من المغامرين واللصوص) يغيرون على أملاك القبيلة الأخرى من أجل الغنيمة. في بلدنا العزيز صارت أملاك الناس المنقولة وغير المنقولة مغنماً لمن بيده القوة وفرض الإرادة على الآخرين.
لم يعد النقاش حول شكل الدولة ونظامها موضوعاً ذا شأن، سواء الدولة كانت مركزية أو لا مركزية أو فيدرالية، فالأمر سيان. هي مسألة الطبقة التي تغير على الآخرين في زمن صارت الدولة لادولة. المسألة هي اللادولة وكيف يستعيد الناس نصاب الدولة من أجل الحفاظ على أنفسهم وممتلكاتهم وأعراضهم.
لادولة التشليح والمصادرة هي التي تحكم لبنان. عصابة السوء التي تتشكّل منها تفعل ما تفعله، وهي تدري بما تقوم به. ليس الفراغ الحكومي ومن قبله الرئاسي عدماً أو تعبيراً عن غياب السلطة، بل هو تأكيد السلطة من نوع آخر. لا وجود للدولة، دولة اللاوجود، هو الوجود الذي لا نتمناه.
المسألة الأخرى ليست ازدواجية السلطة بل تعددية السلطة وتحولها إلى قطاعات مستقلة، تسيطر عليها أو تديرها رؤوس تتحكم باللادولة. المثال الأوضح هو الكهرباء التي انتقلت من الدولة المركزية إلى سفن مستأجرة وإلى مولدات الأحياء والقرى. المياه المنزلية تُشترى بالصهاريج دون اعتماد على شبكات الدولة التي نضبت في فصل الربيع، كما في كل سنة منذ حين ليس بالبعيد. أزمات أخرى مفتعلة تتعلّق بالخبز والمحروقات والدواء والأوكسجين. مبالغة بالأسعار إلى أن يضطر المحتاجون إلى بيع ممتلكاتهم لسد الرمق بينما أموالهم المصادرة في المصارف. ستعود الأموال المنهوبة المحوّلة للخارج بمهمة ليست للاستثمار في أعمال منتجة بل لتملّك ما بقي لدى الطبقات الدنيا، إضافة لتملّك ما لدى الدولة البائدة. الانتهاء من هذه المهمة يعادل تشكيل السلطة من جديد، لا من خلال جمعية عامة تأسيسية أو طاولة حوار بل من خلال طبقة صغيرة الحجم كثيرة المال، تصير هي السائدة، أي التي تسود البلد وتحكمه. إقطاع جديد. المقصود من الاقطاع هو عيش الطبقة العليا على الريع من ممتلكاتهم الجديدة. وستكون السلطة استعماراً داخلياً يتبع الخارج، فاقد السيادة، معدوم السياسة، فاقد الاخلاق. تطوّر يصعب إيقافه، إن لم يكن الأمر مستحيلاً. ربما حدثت الانتخابات النيابية في موعدها. هل سيصوّت اللبنانيين كما اعتادوا أم سوف يسقطون رموز الطبقة السياسية بما فيها معظم من في المجلس النيابي في محاولة لوقف هذا التدهور أو الانهيار؟ وهل سيصوّت الشعب لصالح الشعب للمرة الأولى في تاريخه؟
يبقى الشعب مقولة ميتافيزيقية؛ واحد في المخيلة لكن تجمّع لشعوب وقبائل وطوائف في الواقع. يصبح الشعب شعباً واحداً من خلال الدولة. يتوحد الشعب بالدولة والدولة بالشعب. في غياب الدولة وفي ظل حكم اللادولة، يصعب بل يستحيل توحيد الشعب أو أن يصير مجتمعاً متماسكاً؛ بل يصير الشعب كمّاً مهملاً ، كما نحن الآن.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق