مرة أخرى يستفيد النظام الرأسمالي من مصائب الناس. كيف؟
هلع الكورونا يجعل الناس يَقبلون طوعاً الكمامات، والتباعد الاجتماعي، والبقاء في البيوت. الكمامات تعني كم الأفواه. التيارات المعارضة ليس لديها أفواه تتكلم بها. مطالبها لا تستطيع التعبير عنها. التباعد الاجتماعي يعني أن الناس لا يستطيعون التجمّع في تظاهرات اجتماعية للمطالبة بحقوقهم. البقاء في البيوت يعني أن السجن الطوعي أصبح مقبولاً. التضامن الاجتماعي (السياسي) أصبح في حكم المستحيل. يفقد الانسان في علاقته مع الآخر حميمية تكون مستحيلة من دون تقارب. الخوف من الآخر مبرر. الاحتكاك به مسبب للعدوى. البطالة عن العمل قسرية. ازدياد الفقر حول العالم حتمي. التكنولوجيا المتقدمة تجعل العمل البشري لا ضرورة له. “الروبوتات” تقوم بذلك. تبقى الأمور الخدماتية في المطاعم والمنتجعات ودكاكين الحلاقة وما يشبه ذلك. صار البشري أحد أدوات العمل حين اللزوم. صار لا لزوم له.
لقاح كورونا، كما يصفونه، سوف يجعل صانعيه ومن وراءهم يتحكمون بالناس. يُفرض عليهم انضباطا غير مسبوق. يفوق الانضباط الذي يفرض عادة في المدرسة والسجن والخدمة العسكرية. اللقاح الجديد، كما يصفونه، لا يمكن تقديمه إلا بانتقاء الناس الذين سوف يتلقونه، وانتظامهم جماعات في أوقات محدودة وأمكنة موحدة يعودون إليها ثانية لتلقي الجرعة الثانية. تقنيات اللقاح كما يقولون تفرض ذلك. سيكون التنافس بين الناس لنيل اللقاح أشد من التنافس بين شركات الأدوية الصانعة. سيتاح للشركات انتقاء من ينال اللقاح ومن لا يناله، وأية شعوب تستلمه قبل شعوب أخرى. الضبط الكامل للبشر أصبح ممكناً. يحتاج كل منا الى أخذ اللقاح مرتين. المرة الثانية تؤكد ما هو مطلوب منا في المرة الأولى. لا نستطيع الاختيار. الطعم يجب أن يبقى مبرداً لدرجة متدنية جداً. لا يمكن حفظه إلا بأساليب تكنولوجية متطورة. الشركات أو من ينوب عنها (المدربون عندها) يفعلون ذلك.
كما فيما يتعلق بالمعلومات (نقل ما يسمى معرفة)، كل شيء مقونن. لا يصل إليك إلا ما يراد له أن يصل إليك. تتشكل ذاتك كما يراد لها أن تتشكل. تُشفى إذا أريد لك أن تشفى. تكتسب مناعة باللقاح إذا أريد لك. لأخذ اللقاح، على المريض أن يخضع أولاً. هل تصوّر غرامشي أو فوكو أو أورويل أن ذلك سيحدث؟ أم أن أجهزة الاستخبارات كانت هي الغرف السوداء التي قُرِّر فيها كل ذلك؟
الناس حول العالم متلهفون للدواء واللقاح. كل منهما مُصَمَم كي يؤدي تقديمه بطريقة معينة الى النتائج عينها التي بدأت وتأصلت في الوجود البشري مع انتشار الآلة الذكية (الخليوي، الانترنت، غوغل، أمازون، إلخ…). أنت حر بالمطلق لكنك تخضع بالمطلق. الآن عليك الطاعة العمياء. الذكاء الاصطناعي حوّل البشر الى آلات رديفة. أولاً، قرر أصحاب القرار أن البيئة العالمية، الطبيعية، يجب أن تتغيّر حسب متطلبات الرأسمال. ثانياً، الخطر الذي يؤدي إليه تغيُّر البيئة سيؤدي الى نتائج كارثية على حياة الناس. إذن على صناع القرار أن يقرروا كم سيبقى من البشرية. ومن سوف يبقى منهم. يعرف أصحاب القرار أخطار تدمير البيئة. لكنهم يريدون أن تكون النتائج مربحة لهم. تكاثر المليارات البشرية لم يعد مربحاً لأصحاب القرار. الفقر والمطالبات الاجتماعية تزعجهم، بالأحرى تؤدي الى إنقاص أرباحهم. ثرواتهم في أمان. تزايد الثروات، أي الأرباح، على المحك. التلاعب بالضمانات الاجتماعية والأنظمة الصحية لا يناسب أصحاب القرار. على النظام العالمي تفكيك ما هو موجود منها. يكون ذلك بإنقاص عدد البشرية بالموت الطوعي.
انتشار الكورونا، الوباء الجارف، أمر ملائم. قوانين العمل، القوانين التي تحمي العاملين في عملهم وأثناء تقاعدهم (قانون العمل في فرنسا، مثلاً، أكثر من 3000 صفحة) يجب تفكيكها. جاءهم وباء يشكل خطراً على المسنين وأصحاب الأمراض المزمنة أو المتعددة. هؤلاء يجب الخلاص منهم بنظام اجتماعي جديد. الخلاص منهم بالموت أفضل للرأسمال. منذ عقود من السنين وحكومات العالم تتذمر من أعباء الشيخوخة وأعباء التقديمات الصحية التي اعترفوا منذ زمن أنها حق للناس. الآن يريدون التخلص من هذا الحق ولو بإنقاص عدد البشر.
لا يريدون تحمل أعباء إبادة بشرية. هناك عبء أخلاقي لا يغتفر. فليكن ذلك عن طريق وباء أحدثته الطبيعة اياها التي يدمرونها. لكن البشرية، بكل تأكيد، لن تعود الى سابق عهدها. سوف تبالغ النيوليبرالية في انتصاراتها وسوف تحرز انجازات لم تكن تحلم بها في عهود سابقة:
على الصعيد الاجتماعي سوف يستمر التباعد الاجتماعي؛ سيكون الفرد أكثر انغلاقاً على نفسه. الآلة الذكية تتيح له ذلك الاتصال المباشر. لن يكون مع البشر الآخرين بل مع الهاتف أو الانترنت أو من يديرهما. بث المعلومات (إضافة الى دعايات وغيرها) سيعيد تشكيل المجتمع. فرد يدور حول نفسه. مقطوع العلاقة بالمجتمع والسياسة. الحوار مع الآلة الذكية. فيها كل الأجوبة والألعاب. يقضي ساعات معها. الحياة اليومية، ما تبقى منها، تصبح ثانوية بالنسبة له. تفاعله الأهم هو مع “المنصة الاجتماعية” التي تبث إليه ما يجب أن يعرف. يتباهى بعدم قراءة الكتب والجرائد. يقرأ ما يختارون له. تتكيف مشيئته وإرادته ونفسيته حسب ما يريدون ويشاؤون. بالطبع، يستطيع أن يختار من بين سيل المعلومات. في الحقيقة يختار مما يُتاح له. قبل الآلة الذكية، كان يختار الحقيقة عن طريق البحث والشك والسؤال. الآن تأتيه الحقيقة معلبة. تناثرها يساهم في توحيدها. مصادر هذه الحقيقة ليست مثل الاستخبارات الذين يدحشون الحقيقة في زلعومك قسراً. أصحاب الذكاء الاصطناعي يأتونك بها متناثرة. أنت لا تستطيع تجميع الأشلاء إلا وفق ما يريدون. تفعل طوعاً ما كان يتم قسراً.
على الصعيد السياسي، يتعود الناس على التباعد الاجتماعي. المهم بعد ذلك القضاء على العلاقة الحميمة مع الآخرين. الآخر يصبح عدواً. التباعد عنه ضروري. تبقى العلاقة مع الآلة الذكية، ومع الذين يديرونها ويتحكمون بمنتجاتها. الفرد ينغلق على نفسه. لا يجد أن للحوار جدوى، وأن للسياسة طريق يوصل الى المطالب. الاحتجاجات وحتى الثورة تتطلّب تقارباً بين الناس؛ تفاعلاً بينهم؛ إجماعاً على شعارات تهدد النظام. يحافظ سدنة الهيكل على النظام بإبعاد الناس عن بعضهم. تموت السياسة. ينتصر الاستبداد لا بالقمع والقسر والاضطهاد بل بالتسرب الى الدماغ. لا بالعنف بل بالقوة اللينة. لا عن طريق “هاردواير” (أسلحة الفتك) بل عن طريق القوة الناعمة كما بشرنا “جون ناي”.
يدور الانسان الفرد حول نفسه. حقيقة الأمر أنه يدور حول الآلة الذكية. حتى صلته بالدولة والمجتمع تمر عبر القوى التي تدير منصات الآلة الذكية.
على الصعيد الطبقي، تنحدر الطبقة الوسطى لتنضم الى جحافل الذين لا عمل لهم. بعد أن أُخرجوا من العمل عن طريق “لوك داون” أو الإغلاق الكلي أو الجزئي. لن يستطيعوا العودة الى عملهم. سيجدون أن “الروبوت” احتل مكانهم. يكون ذلك بعد أن فقدوا القدرة على الاحتجاج والمطالبة بفعل الكمامات والتباعد الاجتماعي والاهتمام المتزايد بالصحة الذي تولّد عن رعب، وأنتج رعباً أكبر. الصحة ضرورية للعيش. يقررها برنامج الآلة الذكية في عملية انتقاء من يجوز لهم تلقي الدواء أو اللقاح. ما يراد التخلص منه من أعداد البشرية المتزايدة ينفّذ عن طريق الوباء وعلاجاته. ليس انتشار الوباء مؤامرة، بل نتائجه هي ما يستفيد منه أصحاب القرار. من قال إن الاكتشافات العلمية في بداياتها كانت مقصودة النتائج منذ القرون الأولى للثورة الصناعية؟ ازداد عدد البشرية بسبب الصناعة وبسبب تطوّر المعالجة الصحية. ينخفض عدد البشرية للأسباب ذاتها.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن شركات قديمة سوف تعلن إفلاسها وخروجها من السوق. يرتفع مؤشر “داو جونز”. تبلغ الأسهم حداً غير مسبوق برغم ذلك. تنشأ شركات جديدة بتقنيات جديدة، ابداعات جديدة. تبعد البشري عن سيرورة العمل. يكثر عدد العاطلين عن العمل. يقف هؤلاء مشلولي الإرادة بسبب تطورات لا شك أنها كانت وسوف تكون حصيلة تقدم الجنس البشري. يكثر العاطلون عن العمل. ليس لديهم الوسائل السياسية للاحتجاج والثورة. ليس لهم الوسائل الاجتماعية للاحتكاك مع بقية البشر. يعجزون عن التظاهر والثورة. ناهيك بالانقلاب على النظام. يحيلونهم على أنظمة الضمان الصحي والاجتماعي وعلى قانون العمل قبل أن يؤدي ذلك بهم الى الهلاك. تتغيّر قوانين الاعتناء الصحي والاجتماعي والعمالة أو لا تتغيّر. مع سيطرة المال على الاقتصاد، يصير العاطلون عن العمل مثل المسنين وذوي الأمراض المزمنة، عبئاً على النظام الذي يجب أن يتخلص منهم. لا يُنْقَذ النظام البشري إلا بإنقاص أعداد البشرية. الأعداد المتكاثرة أصبحت عبئاً. توسع البشرية الذي كان ضرورياً سوف يطيح بها.
النموذج الأعلى لهذا التطور الاقتصادي هو معمل يتم التركيب والتصنيع فيه عن طريق أعداد من “الروبوت” الذي يحل محل العمل البشري الذي لم يعد يلزم.. يجب الخلاص منه. بدأت الثورة الصناعية الأولى بتهجير الجحافل من الريف الى المدينة. كانوا بحاجة الى عناية صحية واجتماعية من أجل المحافظة على سير العمل. صاروا لزوم ما لا يلزم بسبب ثورة صناعية أخرى. هذه الأخرى ليس هدفها الصناعة من أجل الاستهلاك بل المال من أجل تراكم الثروات.
التناقض الرئيسي عند الرأسمالية الآن هو أن المال ينتج المال، في البورصات وصناديق الاستثمار، دون المرور عبر البشر الذين يصنعون ما سوف يُستهلك. وهو أيضاً أن الإنتاج بطرق آلية (أي ليس عن طريق الناس) يحتاج الى بشر بأعداد كبيرة من أجل الاستهلاك. لا تكتمل الدورة الاقتصادية من دون استهلاك. هؤلاء المستهلكون تتم إبادتهم عن طريق تكنولوجيات الوباء ومستلزماته من لقاح ودواء. هي الإبادة عينها التي تهلك المستهلكين أو تحولهم للبطالة دون مدخول يجعل منهم مستهلكين. الرأسمالية لا تنتج لنفسها. تنتج لغيرها. هذا الغير هو الآن المعرض للإبادة. الرأسمالية نظام متكامل. يشمل كل البشرية. هل يستطيع هذا النظام الاستمرار بنصف عددها، دون دورة كاملة. الأمر يستعصي على الجواب. إلا إذا كان الجواب: النظام الرأسمالي يدمّر البشرية ويدمّر نفسه في الآن ذاته. الانتصار الكبير للرأسمالية مع النيوليبرالية يبدأ يعاني أزمة أن العالم لن يعود كما كان قبل الوباء. هل هو الوباء الذي فجّر الرأسمالية من الداخل؟ أم أن آليات عمل الرأسمالية لم تعد قادرة على انقاذها؟
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق