نشر هذا لمقال في جريدة “السفير” بتاريخ 20 تموز 2009
لم يكن اللبنانيون بحاجة إلى تجربة جديدة، تضعهم على حافة هاوية الفتنة، لكي يقتنعوا بأن «الديموقراطية» ـ كما يفهمها ويمارسها «العالم المتحضّر» ـ لا تنفعهم، ولا هي تحل مشكلات انقسامهم التي تجاوزت «السياسة» إلى مهاوي الغرائز والعصبيات القبلية.
فالانتخابات تحسم الخلاف السياسي بين قوى سياسية تسلِّم جميعها بوطنية بعضها البعض وتتنافس ببرامجها الاجتماعية ـ الاقتصادية على كسب أصوات الناخبين الذين لا يحتاج أي منهم إلى «شهادة مصدقة» بوطنيته أو إلى «براءة ذمة» من ولائه للخارج، وتطهّره من الطائفية..
والديموقراطية لا تأتي محمولة في أسطول من الطائرات الأميركية يتقدمها نائب الرئيس جوزف بايدن بعدما مهّدت له بالقصف الناعم وزيرة خارجية الدولة العظمى السيدة هيلاري كلينتون،
كذلك فهي لا تأتي محمولة على ظهر جمل ضمن قافلة انطلقت من حيث الحكم لمن أخذه بالسيف أو بالدبابة أو بقوة «الدول» التي تعطي الحكم لمن تشاء ممّن يخدم مصالحها.. الكونية!
ثم أن الديموقراطية لا تعالج أمراض الطائفية في بلد معتل منذ الولادة، وهناك جهات لا حصر لها تستفيد من اعتلاله، فتتخذ منه منصة للهجوم على وحدة شعبه، خدمة لإسرائيل وتمكيناً لاحتلالها فلسطين ومذبحتها المفتوحة ضد شعبها، وكل ذلك بعض أهداف أعداء هذه الأمة في مختلف أقطارها..
وليس جديداً «اكتشاف» أن الطائفية أقوى من الديموقراطية..
وهكذا فقد قهرت الطائفية الديموقراطية، مرة أخرى، عبر الانتخابات المحكومة بقواعد من الإسمنت الطائفي المسلح،
ذهب الناس إلى صناديق الاقتراع سيوفهم في أيديهم والشرر يتطاير من عيونهم، وكل طرف يراهن على إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر، إن لم يكن بالأصوات مستثارة بطوائفيتها وبتخويفها من طوائفية الآخرين، فبواسطة التخويف بنيران الفتنة التي لن تبقي ولن تذر..
وها نحن بعد ثلاثة وأربعين يوماً من إعلان نتائج الاقتراع، ننتظر «الدول» لكي تأتينا بحل عجائبي لمشكلة تشكيل الحكومة العتيدة، التي كان يفترض أن تكون الثمرة الناضجة للتجربة الديموقراطية الفذة التي أقدم عليها اللبنانيون بنجاح منقطع النظير، فأمّنت الفوز لأكثرية طوائفية معينة على أقلية طوائفية واجهتها بالسلاح الديموقراطي… الأبيض!
ها نحن نقبع في قاع خوفنا من نتائج هذه اللعبة الطوائفية بشعارات الديموقراطية التي نعرف جميعاً أنها قابلة للانفجار، ننتظر من يهب إلى نجدتنا بتعطيل مفاعيل تلك «القنبلة الموقوتة» التي أودعناها ـ بالأمر أو بالتحريض أو بالتخويف، لا فرق ـ في صناديق الاقتراع ـ التحدي!
والمعادلة واضحة: لكي تكون لنا حكومة علينا أن ننسى أو نتناسى نتائج الانتخابات التي ثبت ـ مرة أخرى ـ أنها ليست، في لبنان تحديداً، معياراً أو وسيلة قياس لاتجاهات الرأي العام، في بلد فيه خمسة، ستة، عشرة أو ثمانية عشر رأياً عاماً!
وللتناسي عوراته: فأين نذهب بالذين عبّأناهم وشحناهم حتى أعمينا فيهم البصر والبصيرة فما عادوا يعقلون، وما عادوا يقبلون إرجاءً أو تأخيراً في تسلمهم نصيبهم من كعكة الحكم التي من أجلها تحالفوا ـ وأحياناً بالأمر ـ وبسببها استنفروا العصبيات وأهاجوا الأحقاد وأعادوا إلى السطح الذكريات السوداء عن فتن وحروب أهلية نائمة… وثمة العديد ممّن لهم مصلحة في إيقاظها باعتبارها أقصر الطرق إلى السلطة ولو في مشروع وطن يحترق..
مرة أخرى نرانا في مواجهة المأزق نفسه: الانتخابات بقانون طوائفي لا تنتج ديموقراطية، بل تجدّد مشروع الحرب الأهلية، والمجلس النيابي يحمل بذور انفجاره في داخله، والحكومة مشروع هدنة قد تطول وقد تقصر أو ربما تكون أداة التفجير، والدولة مشروع مرجأ دائماً حتى نفرغ من بناء وحدة الشعب، ولا أحد يريد الشعب موحداً، لا «الدول» ولا القوى المحلية التي غالباً ما تستولد بعمليات قيصرية أو عبر اللعب بنيران الحرب الأهلية.
في الحلقة المفرغة، مرة أخرى: ننشئ قانوناً للانتخابات يلغي وحدة الشعب ويسد الطريق على قيام الدولة، ثم نجري انتخابات تؤكد الانقسام الطوائفي والمذهبي وتنشئ ما يشبه الكانتونات المتخاصمة، فإذا ما وصلنا إلى تشكيل الحكومة وجد الرئيس المكلّف نفسه في مواجهة كل الألغام والمتفجرات التي شارك الجميع في زرعها على الطريق إلى الدولة… ويكون الحل بإرجاء مشروع الدولة بمحاولة صياغة تحالف طوائفي لحكومة تولد انتقالية وتبقى انتقالية إلى أن تنفجر أو تفجّر من داخلها، فنعود سيرتنا الأولى مع ادعاءاتنا الديموقراطية من قلب حومة اقتتالنا الطائفي والمذهبي، الذي تشارك فيه «الدول» جميعاً، فلا يهدأ إلا بهدنة يليها توافق في ما بينها يعطينا استراحة ما بين حربين أهليتين!
وفي الفاصل بين كل حربين يلتهم المشروع الإسرائيلي المزيد من أرض فلسطين، في حين تتكفل «الدول»، أجنبية وعربية بمشاغلة شعب فلسطين بالوعود أو بالتهديد أو بالعمل لتقسيمه بل وتفتيته بحيث لا تبقى قضية تستحق أن يموت الناس من أجلها خصوصاً أنها لا تستطيع ـ على قداستها ـ أن تمنحهم أسباب الحياة.
وهكذا الأمر، بل هو أسوأ في العراق الذي لا يعرف شعبه له مستقبلاً.
هل يمكن الاستنتاج أن ثمة «ديموقراطية» تصنع خصيصاً لإلغاء الأوطان؟!
ألسنا، في لبنان، أمام خيار (نظري) بائس من هذا النوع؟!