يسألون الأسئلة المعقدة. في الشمال المتقدم كما في الجنوب ناقص التقدم والجنوب المتخلف ازداد بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة طرح أسئلة غير عادية على أهل الفكر والدين والسلطة. عشت ولم يكن يفاجئني السؤال عما إذا كنا نحيا حياة أفضل من الحياة التي عاشها أجدادنا. الآن تقلقني كثرة ترديده والصعوبة المتزايدة في استحضار الإجابة المناسبة وإصرار السائلين على الحصول عليها. ناقشت الأمر مع عقلاء وتوصلنا إلى اجتهادات لم يقنعني واحد منها. ناقشنا أسئلة أخرى.
سألوني مثلا سؤالا في ظاهره بسيط وإجابته لم تكن بسيطة. سألوني إن كنت راض عن اختيار فنلندا الدولة أو الأمة الأسعد في العالم. يفترض الاختيار أن جهة ما وضعت للسعادة معنى وصفات ثم صاغت عددا من المعايير وبناء عليه وقع الاختيار على فنلندا. لم يختاروا دويلة بوتان أو سكيم على سفوح الهمالايا ولا قرية في مكان قصي من غابات الأمازون ولا دير في الصحراء يأوي كهنة بوذيين أو مسيحيين. السعادة في نظر الكثيرين لا تكون فقط إلا لمن آمن بقيم ومؤسسات الحضارة الغربية والتزم قواعدها.
يسألون أيضاً السؤال الأشد تعقيدا، يسألون إن كانت الحاجة إلى البشر لم تعد ملحة كما كانت. يسبقون السؤال بخلفية من صنعهم وبفضل ما تعلموه. كانت القبائل تتفاخر بعدد أعضائها وأتباعها وعبيدها ودرجت الأديان على الإيمان بنفس القاعدة ثم جاءت الدول تعتمد غزارة البشر دليل قوة وعنفوان. وفي مرحلة من المراحل انتبهت دول، وبخاصة دول المهاجر، إلى ضرورة الاهتمام بنوع البشر أكثر من الاهتمام بالكثافة. اهتموا بعضلات زنوج إفريقيا المؤهلين للعمل الشاق وفي مرحلة أخرى بالأدمغة. قلة ضئيلة جدا تسكن معامل البحث العلمي لم تعد تخفي نواياها أو نتائج بحوثها وتجد التشجيع من أقليتين أخريتين هما قيادات التخطيط في المؤسسات العسكرية ورجال أعمال مغامرون. هذه المجموعات الصغيرة في دول متقدمة تكنولوجيا وطموحة سياسيا واقتصاديا تقود حملة تصاعدية للتبشير بعالم جديد يعتمد الذكاء غير البشري بديلا أعظم نفعا وأقل تكلفة من الذكاء البشري الذي اعتاده البشر منذ انطلاق حضارتهم قبل آلاف السنين. خلال الشهور الأخيرة سمعت السؤال التالي يتكرر إلى حد أثار الملل، “متى تبدأ عمليات الإحلال وبخاصة عملية تسكين بشر مخلق بشريا ومزود بذكاء غير بشري محل البشر العاديين المزودين بأدمغة غير بشرية”. وبعد أن تأتيهم الإجابة على هذا السؤال البسيط بأن الإحلال بدأ بالفعل في قطاعات إنتاجية وعسكرية تتوالى الأسئلة الأقل بساطة، فيسألون إن كان اليوم قريب حين يتولى تعليم أولادهم معلم آلي مزود بذكاء غير بشري، وحين تزود كل الطائرات المدنية والقطارات والحافلات بعقول غير بشرية ويتقرر الاستغناء عن بني البشر من الطيارين والسائقين والمحصلين وعمال الصيانة. هل نحن على أبواب مرحلة ستتغير فيها طبيعة الطلب على بشر من بشر يستهلكون وينتجون إلى بشر يستهلكون ولا ينتجون؟ هل سيكون إنسان المستقبل غير المنتج على هيئة غير الهيئة التي نحن عليها، هل ستنبت له أعضاء وأطراف جديدة تتناسب ووظائف ليؤديها غير التي نؤديها؟ هذه الأسئلة، وغيرها كثير، لم يعد التداول فيها والنقاش حولها حكرا للفلاسفة، إنها اليوم أسئلة كالألغاز يتداول فيها الناس ثم يطرحونها على من هم ليسوا فلاسفة، ومن هنا مشقة الإجابة وصعوبتها.
شيء مشابه يحدث في عالم السياسة. تقف الناس عاجزة عن فهم ظواهر استجدت خلال السنوات الأخيرة وتطورات معقدة في علاقاتهم بالسلطة أو حتى ببعضهم البعض كمواطنين في دولة واحدة. أسمع أنا نفسي مواطنين في بلدي يسألون أسئلة لا تجد من المتخصصين إجابات بسيطة أو مقنعة. لا أبالغ حين أقول أني وإن كنت أدرك أن الناس في الدول حديثة الاستقلال قد تسأل أسئلة أكثر من الأسئلة التي يسألها المواطنون في الدول الأقدم استقلالا والمتقدمة سياسيا، إلا أنني أظن أن الناس تطرح هذه الأيام أسئلة أكثر وأصعب وأعمق من كثير مما تعودنا على سماعه. أتحدث عن أسئلة مطروحة في الغرب وفي الشرق أيضا، مطروحة في أمريكا وفي العالم العربي في الوقت نفسه. هذه بخلاف أو إلى جانب أسئلة خاصة بظروف كل إقليم على حدة أو بحالة بلد بعينه.
يسألون، ماذا جرى للديمقراطية في الغرب؟ نراهم في الغرب يتعاملون معها، مع قيمها ومؤسساتها ورموزها بدرجات من الاحترام تتدنى باستمرار. أنا شخصيا استحيت الحديث عن ديمقراطية ويستمنستر في إجابة عن سؤال يستنكر الكثير من السخف والتهريج الذين صاحبا ملحمة البريكسيت في مجلس العموم البريطاني. هل أقول لصاحبة السؤال أن ديمقراطية ويستمنستر تعرضت لإصابات خطيرة خلال مسيرة تدني مكانة بريطانيا العظمى من دولة بين دول الصف الأول إلى دولة بين دول أخرى أقل شأنا، وأن ما تدنى في السياسة وانكسر لا يعود إلى حالته الأولى مهما بذل في محاولة الإعادة من جهد وتضحيات. كدت أصرح بأن فضيحة أو ملحمة البريكست تضاف إلى سلسلة سقطات كانت حرب السويس إحدى أولى حلقاتها وحرب العراق حلقة أخرى، وكلها مع غيرها عجلت بظهور علامات العجز على السيدة العجوز، المملكة المتحدة.
سئلت عن المكانة الراهنة لقيم الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية وعن مبادئ وأخلاقيات الديمقراطية الأمريكية كما سجلها بالمشاهدة والممارسة الكاتب الفرنسي دي توكفيل في القرن التاسع عشر وسقيناها ونحن طلاب مدارس وجامعات وتلاميذ سياسة. هنا أيضا جاء السؤال في صيغة الاستنكار كالسؤال عن ديمقراطية ويستمنستر. طلبوا مني الرأي في نوع الديمقراطية التي تسمح بأن تتعامل مؤسسات الدولة بجدية مع تغريدات الرئيس المزاجية التي يغردها كل صباح باعتبارها قرارات وتوجيهات رسمية وإن تناقضت مع سياسات الدولة وقواعد العمل الدستوري. هل أنكر أن عطبا دائما أو مؤقتا أصاب الديمقراطية الأمريكية يوم احتل دونالد ترامب منصب رئيس الجمهورية وفي نيته تخريب نظام دولة ونظام دولي وإقامة شيء آخر هنا وشيء آخر هناك؟ لا لن أنكر بل وأضيف بأن هذا العطب الذي أصاب نموذجي الديمقراطية الغربية كان له أثره المباشر في سباق القوة العالمي وعملية تفكيك هياكل النظام الدولي القائم وانتشار الفوضى مهددة استقرار أوروبا ومتسببة في خراب هائل في الشرق الأوسط. يبقى في هذا الشأن السؤال الأهم عن مستقبل النظام الديمقراطي في عالم تتفجر في كياناته السياسية انتفاضات هوية وتقوم فيها شعبويات تعتبر نفسها فوق الديمقراطية أو “بعد الديمقراطية” وتعود منها إلى الواجهة ظاهرة حكومات “الرجال الأقوياء”.
هل من حل لمشكلة الفساد ولماذا تفاقمت بشكل رهيب خلال الشهور الأخيرة؟ كنت في زيارة سريعة لبلد قريب. رحت أنا نفسي لأسأل عن حال الفساد. سألت وتلقيت الرد عنيفا. قال مجيب “أتحداك أن تجد لي في هذا الشارع المزدحم بالمارة مواطنا غير فاسد. لو وجدت هذا المواطن لكان هناك أمل في أن شخصا سوف يبدأ الزحف لمكافحة الفساد وربما خلال زحفه الانفرادي حفز شخصا آخرا وبعد مرور عام أو أكثر قد ينضم مواطن ثالث. يا سيدي، كلنا فاسدون”.
سئل أحد علماء الاجتماع عن مستقبل الفساد في الولايات المتحدة وبخاصة بعد عهد وهيمنة ما صار يعرف بإمبراطورية ترامب الصغيرة. هناك الدولة تشرع القوانين التي تجعل الفساد مشروعا. بليونير يدفع أموالا مشروعة لمرشح رئاسة فينجح المرشح ويحصل البليونير على سفارة في إسرائيل ليشترك من هناك في تنفيذ صفقة هي الأقدم في تاريخ الصفقات، صفقة في الأصل دينية. لا فساد في الظاهر فالتمويل قانوني وتعيين السفير حق رئاسي مشروع وإخضاع الطرف الآخر فلسطينيا كان أم عربيا أم إسلاميا وظيفة دولة عظمى. هذه الدولة العظمى تزعم أن من أهم أهدافها مكافحة الفساد في الدول الأخرى. أمريكا على كل حال ليست وحدها ففي كل من روسيا والصين يوجد نظام حكم يعتمد على الفساد في دعم سلطته ويعتمد على مكافحة الفساد في زيادة شعبيته.
ما السر وراء المزاج الانفراطي في العالم ككل والشرق الأوسط كحالة خاصة؟ نستطيع بشيء من الثقة الإجابة على سؤال لا يقل شهرة وهو السؤال عن السر وراء الصعود المفاجئ للهويات الثانوية. نعتقد أن المسؤولية تقع في جانب كبير منها على العولمة التي ألقت بثقلها على مجتمعات في ظروف انتقالية. حاول فلاسفة العولمة نشر الاقتناع بجمال الضخامة. ما أروع أن تكون كبير الحجم. ما أعظم أن تكون جزءا في كتلة أو طرفا في حلف أو عضوا في سوق مشتركة واتحاد كونفدرالي. فجأة برزت للعولمة أنياب وانكشفت سلبياتها وانفضت عنها دول بعضها بحساب وأكثرها بدون حساب. وفجأة أيضا راحت الشعوب تبحث عن هوياتها الأصغر تعوض بها ما فقدته تحت ولاية الكيان الضخم والهوية الأشمل. نحن مثلا نعيش في الشرق الأوسط حال العودة إلى عشق التجزئة. كل منا يبحث عن عائلته الممتدة ليكتشف أنها سبقته فانفرطت. لجأ كثيرون إلى الأفخاذ والعشائر ليجددوا انتسابهم ويكرسون هوية أولية أهملوا الاهتمام بها خلال مراحل استقلال الدولة ثم العولمة. أفراد آخرون اعتزلوا أو انعزلوا ودول أيضا. دول في وسط أوروبا تحن إلى الكيان الصغير الذي حرمت منه في الحرب الباردة وما إن كادت تعود إليه إلا وأختطفها حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي. بريطانيا تحن إلى شبكة هوياتها الثانوية إلى حد أفقدها اتزانها، وقد لا يعود.
مرة أخرى تثبت دول العالم العربي أنها حالة نموذجية. منذ حصولها على الاستقلال وأغلبها يحلم بوضعا ونقيضه. دول تحلم بأنها خلقت لتقود جمعا عربيا كبيرا يأتمر بإرادتها وينصاع لذكرى أو أسطورة تحكي عن مرحلة خضوع لها، وفي الليلة التالية تحلم بأنها جزء صغير في كل يجب أن يقوم ولو على حساب سيادتها، وفي الليلة الثالثة تستيقظ من حلم تمردت فيه على الكل وانتحت جانبا تحث منه الأجزاء الباقية في الكل على الانفراط وتقود البعثرة. إنه تاريخ ما بعد الاستقلال العربي. ماذا يخفي المستقبل للعرب؟ تتربص بهم مستغلة انفراطهم ثلاث قوى إقليمية كبرى لا تخفي إحداها الحنين إلى قرون تحكمت فيهم وحكمت وقوتان من الثلاث راحتا تفرضان بالفعل وبالأمر الواقع توسعهما وإرادتيهما. لم تنتظر واحدة من الثلاث معرفة ما قرره العرب في شأن مستقبلهم، أو لعلهم عرفوا أن العرب لم يقرروا لأنهم لم يجتمعوا، وأنهم حتى لو اجتمعوا وهم منفرطون فلن يصدر عنهم إلا التنديد.
أي مستقبل ينتظر سوريا وينتظر الأكراد والأتراك وينتظر ملايين المهاجرين واللاجئين المقيمين في معسكرات على أراضي عربية أو غير عربية. أي مستقبل ينتظر عرب فلسطين وعرب اليمن وأكراد العرب وعرب الأكراد وعرب وأمازيغ شمال إفريقيا. أي مستقبل ينتظر ثروات العرب واستثماراتهم في هذا العصر، عصر الفساد الأعظم. أي مستقبل ينتظر أدمغة الملايين من شباب العرب التواقين إلى الهجرة نحو آفاق هي في ظنهم أو مكنون صدورهم أكثر رحابة وعدلا.
أي مستقبل لشرق أوسط عادت لتتقاسمه نظريا أو بالفعل دول عظمى ودول أقل من العظمى ودول لم تكن عظمى ولن تكون. أي مستقبل لدول في الشرق الأوسط جيوش المرتزقة الأجانب فيها أكبر عددا من جيوش الأوطان. أنذكر قادة هذه الدول وشعوبها بالمماليك وما فعلوا بشعوبنا أم نذكرهم بانقلاب المرتزقة في جزر القمر، العضو الأحدث بالجامعة العربية. يسألوننا وكأننا نملك إجابات على أسئلة هي بين الأعقد. هل بيننا من يشرح لنا كيف أتيح لداعش وتنظيمات أخرى الاقتحام الآمن والخروج وهو أيضا آمن؟ هل من راو يحكي لنا قصة داعش وأخواته، القصة الحقيقية وهل من سياسي أو مفكر يتنبأ بمستقبل الاستقرار العربي وعشرات الألوف من جنود داعش وعائلاتهم يجوبون صحراوات الدول أو تسربوا إلى مدنها. وأسئلة أخرى كثيرة…
أسئلة كالألغاز.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق