تتناقض الأرض مع سكانها. الأرض، الطبيعة، البيئة، مواردها فوق سطحها وتحته؛ السكان واستهلاكهم لما يُنتج من موارد الأرض؛ حاجاتهم المتزايدة مع إرتفاع عدد السكان، والمتزايدة بنسبة ما لكل فرد من رغبات تعبّر عن حاجات متوفرة وغير متوفرة. ماذا لو كانت موارد الأرض محدودة بما فيها من أراض زراعية ونفط ومعادن وماء يعتبر أهم سوائل الأرض؟
تتزايد هذه الحاجات كما لو أن الأرض خزان لا ينقص، أو هي خزان مهما نقص محتواه يظل قليلاً بالنسبة لما هو. هل تستطيع الأرض تحمّل زيادة سكان الأرض مع ازديادهم وازدياد حاجاتهم بما يقارب ما هو متحقق لاستهلاك الفرد في الولايات المتحدة وفي أوروبا الغربية؟ المياه مثلاً، يستهلك الفرد في أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية أقل بكثير مما هو متاح للفرد في البلدان الرأسمالية المتقدمة.
هناك مقاربات ثلاث لهذا التناقض: الأولى تتعلّق بمحدودية الأرض ومواردها؛ الثانية تتعلّق بتحديد عدد السكان قسراً؛ الثالثة تتعلّق بالتعاون البشري لحل المشكلة لولا أن الرأسمالية سبّبتها لأنها لا تحترم البشرية ولا تحترم الأرض. لا أهمية عند الرأسمالية إلا الربح.
المقاربة الأولى تستدعي الاعتقاد بلا محدودية موارد الأرض، مثلما كانت الفرضية عندما كان عدد السكان قليلاً. كانت الأرض ومحيطها خزاناً كبيراً للموارد، والجو المحيط بها أكبر وأوسع من أن تؤثر فيه الانبعاثات الهيدروكاربونية. هذه المقاربة تعتبرها الرأسمالية الأكثر فائدة لها، لأن مصلحتها تقتضي الاستغلال الأقصى للأرض ومن عليها وما تحتها. القيمة الأساسية هي في الربح وتراكم الثروة. إستغلال الأرض هبة من الله. واستغلال البشر منحة من النظام الاجتماعي. أصحاب هذه المقاربة لا يقرون بأثر القوى البشرية ونظامهم الاجتماعي في تقرير شكل الأرض ومواردها. ويعتقدون أن تنظيم العلاقة بالأرض تعدٍ على الحريات؛ طبعاً حريات الطبقات الراسمالية في الاستغلال. ينكر هؤلاء وجود الاحتباس الحراري والتغيّر المناخي؛ إذا ازداد عدد السكان فوق طاقة الأرض فهذا شأنهم؛ نظام الانتقاء الطبيعي (الدارويني) سوف يحدّد عددهم، ولا يجب مشاركة الخالق في تقرير عدد البشر. هو يفترض أن يعمل لصالحهم. طبعاً يستدعي الأمر سلطة متنامية للدولة لقمع المعترضين ولحماية الحريات المادية الرأسمالية.
المقاربة الثانية تستدعي تحديد عدد البشر قسراً بتحديد الولادات في كل عائلة. اعتمدها بعض البلدان كالصين. النتائج غير مشجعة. وفيها على كل حال تعدٍّ صارخ على حرية الإنسان، وعلى الخالق؛ فهو خالق الكون والبشر، وهو الذي يخلق البشر ويحدد عددهم؛ في هذه المقاربة، الدولة (الحزب) هي الإله الجديد الذي يحدّد عدد البشر. الأمر في جميع الأحوال يستدعي رقابة صارمة من الدولة. بالأحرى يستدعي وجود دولة صارمة أقوى من مجتمعها. يجب أن تكون هي الأقوى كي تحدد حجمه. هذا نظام توتاليتاري. الكل ينكرها خاصة أصحابها، بغض النظر عما إذا كانوا يمارسونها أو لا. الدين طبعاً في هذه المسألة هو وليد تقاليد قديمة تعتبر الإكثار من الولادات أمراً سليماً لما يضيف الى العائلة من أيدٍ عاملة يساهم عملها في البقاء. الدين لا يسلّم أمره الى الدولة إلا مرغماً، أو عندما يصير هو الدولة كما في إيران. وسنرى طالبان في أفغانستان.
المقاربة الثالثة تتعلّق بالتعاون البشري للتنسيق بين قوى الإنتاج وقوى الاستهلاك وتوجيه الصناعة والزراعة الى سياسات صديقة للبيئة، وترشيد استخدام الأرض ومواردها وتزايد عدد السكان واستهلاكهم. الترشيد لا يكون إلا بتخطيط مركزي تقوده الدولة. وأحياناً تفرضه لما هناك من نزوع عند الكثيرين للاستفادة من مخالفة القوانين. الأمر يستدعي سن قوانين لاستعمالات الأرض، وفرض ضرائب على الصناعيين ليعتبروا أن كل ما يسببونه من ضرر للبيئة هو كلفة إضافية داخلية (داخل المؤسسة المنتجة) يتحملها الرأسماليون؛ فعلى الرأسمالي إما أن يدفع كلفة الضرر اللاحق بالبيئة أو يصلحه. طبعا، بُني الاستثمار الرأسمالي على ما يُسمى حرية المبادرة، وحرية الاقتصاد، وعدم اعتبار الإضرار بالطبيعة أمرا يُكترث له.
ربما كانت هناك مقاربات أخرى للتناقض بين احتمالات الأرض (البيئة والطبيعة) وما يمكن أن يستخرج منها، لكن الرأسمالية، وهي التي تدير العالم، تكرّس هذه الإدارة لمبدأ الربح. وتكرّس مبدأ الربح للمال وتكديس الثروة وحسب. ترفض أي نوع من المناقشة لأي خيارات سواء كانت عقلانية أو غير عقلانية، وسواء كانت صائبة أو غير صائبة، لأن كل مناقشة تعني ضمناً، أو صراحة، وضع الرأسمالية وعلاقاتها تحت علاقة الرأسمالية بالدولة؛ تجعل الرأسمالية خاضعة للدولة، وهي أي الرأسمالية، تريد عكس ذلك. رغم سيطرة الرأسمالية، وخاصة الرأسمالية المالية، على دول العالم وسياساتها، إلا أنها لا تريد أن يكون لها شريك في السيطرة. الدولة بمعنى ما تعني أيضاً الناس وهمومهم ومشاركتهم. حتى في البلدان ذات التجذّر الديموقراطي، تريد الرأسمالية أن تحوّل مشاركة الناس في القرارات وصنع السياسات الى مشاركة شكلية. هي تعمل على تجويف الديمقراطية وتفريغها من أي مضمون حقيقي يمت الى مصالح الناس بصلة. وقد نجحت في معظم الأحيان. تريد الرأسمالية أن تكون الدولة أداة لها وحسب. وهذا هو معنى النيوليبرالية المسيطرة منذ حوالي 40 عاماً. إفراغ الليبرالية القديمة من محتواها إذا كانت المصالح الشعبية قد نفذت إليها وأرادت النيوليبرالية تفريغها من ذلك. لم تعد تريد من الليبرالية أن تكون الايديولوجيا التي تمثلها. الرأسمالية المالية تكترث للنيوليبرالية وحسب؛ ليبرالية جُردت من جانبها الإنساني المضاف الى الجانب غير الإنساني وحولتها الى نيوليبرالية تقتصر على ما هو لا إنساني وحسب: إخضاع الإنسان والدولة والطبيعة لمعادلة وحيدة هي معادلة الربح أو الخسارة المالية. لا تهمها حسابات المصلحة البشرية واعتمادها على الطبيعة، ولا الدولة وخضوعها لإرادة الناس. فأن يملك بعض أصحاب الثروات مئات البلايين بل تريلليونات الدولارات، فهذا في نظرها تحقيق للحلم البشري. وكون هذه الثروات تضاهي كل ما تملكه أكثر البشرية (أكثر من نصفها) فهذا يعني أن الحلم قد تحقق في الصفوة المختارة. لا يهمها هذا الاستقطاب البذيء للغنى والفقر، وكون معظم البشرية فقراء. بضعة آلاف منها أغنياء بما يفوق حد التصوّر؛ بينما الطبقة الوسطى مكرّسة لهم، من محاسبين وخدم ومدراء ومثقفين وايديولوجيين وفنانين. يخضعون الضمير لمصلحة الأغنياء المباشرة، ويكرسونه لعبوديتهم الجديدة. حقاً عبيدهم، عندما يؤجرون عقولهم للطبقة العليا في العالم، ويطمسون ضمائرهم، ويلغونها كي لا تؤنبهم فلا تصيبهم عقدة الذنب. يريدون طمأنة ما في نفوسهم والتبرير لارتكاباتهم في خدمة الرأسمالية. لكن الألم لا يفارقهم. لا يقرون بذلك، لكن كثرة استهلاك المهدئات والحبوب المسكنة دليل على ذلك.
انعقدت عدة مؤتمرات على مدى العقود الماضية لمناقشة الخلل الذي يصيب الطبيعة والأرض، ومختلف مسميات الاحتباس الحراري والتغيير المناخي وثقب الأوزون والتصحّر ونضوب الموارد المائية تدريجيا. وأصبح ثابتاً علمياً أن كل ذلك هو مما يسببه السلوك البشري الذي تقرره الرأسمالية بشكل عام، والرأسمالية المالية بشكل خاص. ورغم الكوارث الطبيعية التي تصيب الأرض (بالأحرى الإنسان)، ما تزال الرأسمالية تنكر فعل الإنسان وتأثير أفعال الإنسان على الطبيعة من صديقة الى عدوة للإنسان.
إن إمكانية حل التناقض بين الفعل البشري والطبيعة (الأرض) ممكن في حالة واحدة هي التعاون الإنساني الذي يسمونه إشتراكية؛ إشتراك الناس في القرار حول التنمية والمصير. قوانين الحفاظ على البيئة موجودة في كل بلاد العالم. يُحافظ عليها شكلاً في بلدان المركز الرأسمالي، وتُنتهك بكل فظاظة في بلدان العالم الثالث. وتُكمّ أفواه المعارضة في كل مكان، وتُقمع بكل وحشية في عالمنا الثالث البائس والغارق في حروب الإبادة ضد البشرية. يجري ذلك تحت مسميات الحروب الأهلية والتناقضات القومية والدينية والإثنية، إلخ.. وهي في حقيقتها مظاهر ونتائج للحروب حول موارد الأرض خاصة المياه.
ان اقتطاع فائض القيمة من عمل العمال هو الشكل الأساسي للاستغلال الرأسمالي. لكن الواقع الراهن أضاف استغلال الطبيعة في سبيل الربح بما أصبح يهدد الوجود الإنساني. التناقض بين الأرض والإنسان هو في حقيقته تناقض النظام الاجتماعي-السياسي مع الطبيعة. والضحية في ذلك هو الإنسان. لكننا تعودنا على مفردات الامبريالية والنيوليبرالية ودول الامبريالية، ونسينا مفردات الرأسمالية واستغلالها للطبيعة (للأرض) بما في ذلك إستغلال الإنسان ومصيره. الكورونا وباء واسع الانتشار. وهو أمر حقيقي، لكن الوفيات منه تقل عن الأوبئة الأخرى التي ما تزال تصيب الإنسان خاصة في أفريقيا وأسيا وأميركا اللاتينية. فهل أُريد من الكورونا أن يكون واجهة للتعمية على المصائب (الأوبئة) الأكثر إماتة للبشر؟ مع الكورونا لم نعد نتحدث عن الكوليرا والملاريا وعودة السل وأوبئة أخرى، اعتبرت منذ بضعة عقود أنها اختفت فإذا بها تعود.
هناك علاقة كبيرة بين الجفاف (والفيضانات واختلال البيئة) والمجاعات (سوء التغذية) وفقدان المناعة والأوبئة. المنافسات والحروب والاقتتال في سبيل حيازة موارد طبيعية. هي حروب على البيئة وعلى البشرية. يعتمد وجود البشرية على البيئة (أو الطبيعة) والحرب عليها هي حرب إبادة بشرية..
وللبحث صلة!
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق