بعد قرن وثلاث سنوات من “وعد بلفور” الذي أطلقه وزير خارجية بريطانيا العظمى اللورد بلفور للحركة الصهيونية بمنحها “فلسطين” لتكون “دولة يهود العالم”، ها هو الرئيس الاميركي دونالد ترامب يمنح الحركة الصهيونية اليوم وقد صارت لها “دولة” على ارض فلسطين، ما تبقى من تلك الارض المقدسة في ما اطلق عليه “صفقة القرن”.
تصرف الاول، الوزير بلفور البريطاني المنتصر في الحرب العالمية الأولى على دولتي المحور المانيا وتركيا، على انه “صاحب الارض الفلسطينية” القادر والمؤهل على التصرف بها او ببعضها، وها هو الرئيس الاميركي دونالد ترامب “يتبرع” بفلسطين جميعاً، بأهلها الذين كانوا دائماً اهلها، وبتاريخها الذي بين سطوره المضيئة السيد المسيح ووالدته السيدة مريم، وكنيسة القيامة، والمسجد الاقصى والخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي رفض ـ حين رفع الآذان ـ أن يصلي داخل الكنيسة وخرج إلى ظاهرها حتى لا يأخذها المسلمون بذريعة “هنا صلى عمر”..
… أما الرئيس الاميركي فقد “أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق”، متبرعاً بالأرض المقدسة لمن احتلها بقوة التحالف الدولي الذي دعم الحركة الصهيونية في احتلال فلسطين، وبالتخاذل العربي حيث كانت “الدول” العربية المحيطة بفلسطين ما تزال تحت الانتداب بل الاستعمار البريطاني، كما حالة مصر (الملكية آنذاك)، او الاستعمار الفرنسي (كما كانت حال لبنان وسوريا)، في حين كانت امارة شرقي الاردن (التي اقتطعها الاستعمار البريطاني من ارض سوريا و”منحها” للأمير عبدالله ابن الشريف حسين مطلق الرصاصة الأولى (والاخيرة) اعلاناً للجهاد من اجل التحرر والتحرير والوحدة.. قبل أن ينصب نجله الثاني الامير فيصل على عرش سوريا ـ ومعها معظم لبنان ـ فلما دخل الجيش الفرنسي دمشق، محتلاً، هرب الامير ابن الشريف فتولاه البريطانيون ونصبوه ملكاً على عرش العراق، بعدما قضوا على “ثورة العشرين” المجيدة.
ولان دونالد ترامب مضارب في البورصة التي جنى فيها ومنها ثروته، فقد اعتبر انه يستطيع الآن، وفي ظل الهزيمة العربية السائد مناخها في ظل الدماء العربية المهدورة في أربع رياح الارض، أن يمرر “صفقة القرن” فيتمم اجراءات “تطويب” فلسطين العربية للمحتل الاسرائيلي!
وكما في حالة اللورد بلفور ووعده السخي، ها هو دونالد ترامب يعطي من حقوق العرب ما لا يملك، للكيان الاسرائيلي الذي اقيم بالقوة والقهر في ظل قصور عربي يتراوح ما بين الخيانة ونقص الوعي وسوء التقدير والاستخفاف بقدسية الارض.
انها صفقة أخرى، بالنسبة لترامب، مجرد صفقة أخرى: انه يعطي من ارض غيره، ممن هان عليهم تاريخهم والمقدسات، هان عليهم قرآنهم الكريم والخليفة العادل عمر بن الخطاب، وبطل تحرير القدس من الصليبيين صلاح الدين الايوبي، ومجاميع الشهداء الذين استشهدوا في محاولات صد الهجمات التي شنتها عصابات شتيرن والهاغاناه لترحيل اهل الارض الفلسطينيين، قبل الاشتباك النهائي في حرب 1948، لمنع اقامة الكيان الاسرائيلي، في تواطؤ معلن بين الروس والاميركيين والبريطانيين ومعظم دول العالم، آنذاك، للاعتراف بهذا الكيان الذي اقيم بالقوة فوق ارض فلسطين العربية.
وفي حين يذهب رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو ومعه زعيم المعارضة في الكنيست ايمن عودة تدليلاً على وحدة الموقف، تتبدى القيادات العربية معطلة وعيها متجاهلة هذا النسف المتعمد لقضيتهم المقدسة فلسطين… في حين يروج العدو للقاءات سرية وعلنية عقدت او ستعقد مع مسؤولين عرب، معظمهم يمثلون دول شبه الجزيرة العربية وخليجها (السعودية والامارات العربية المتحدة، بعنوان دبي فضلاً عن سلطنة عُمان).. واضافة إلى مصر والاردن.
هكذا ينتقل اهل الارض، الفلسطينيون، من أسرى لعدوهم في الداخل، إلى “رعايا” تحت الاحتلال الدائم، وكأنما هم “الطارئون” على فلسطين، وليس الاسرائيليين الذين جيء بهم من أربع رياح الارض، وبهويات متعددة تختلط فيها، الروسية والاميركية والاوروبية عموماً، والعربية حتى لا ننسى اليهود العرب الذين كان يعيشون في بلادهم العربية (اليمن، السعودية، العراق، سوريا ولبنان، مصر وليبيا وتونس وصولاً إلى المغرب). كمواطنين لهم حقوقهم الكاملة، وان امتازوا باحتكار الثروة (مالاً وعقارات)، ولهم في بيروت وعواصم أخرى مركز عبادة (كنيس) يمارسون فيه طقوسهم دون أن يتعرض لهم بسوء..
ماذا سيكون رد الفعل العربي؟!
لا شيء، مع الاسف… الا دعوة لثرثرة في اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب في جامعة الدول العربية في القاهرة..
هذه هي القاعدة الثابتة: اسرائيل تضرب، تقتل كل يوم، تهدم القرى، تحتل مزيداً من الارض (حتى لا ننسى سعيها الآن لاحتلال اغوار الاردن..)
والانظمة العربية تتراجع، تتنصل، يجتمع وزراؤها الذين لا يملكون القرار، يدبجون صفحات الاستنكار، ثم يذهبون إلى امتع سهرات الطرب.. قبل النوم!
لقد اسقط أهل النظام العربي كلمات مثل “الخيانة” او “التفريط بالأرض الوطنية” او “الاعتراف بالعدو والاذعان لمطامعه” من قاموسهم السياسي..
وهكذا فان للولايات المتحدة الاميركية قوات عسكرية معززة بالطيران الحربي والبوارج ومعها الطائرات من دون طيار، في معظم البلاد العربية في الخليج ومعها الاردن وسوريا ( في شمالها وبعض الشرق، حيث النفط).. ومشروع قاعدة في “حالات” على ساحل كسروان، مع قوة احتياطية في مطار رياق.
ها هم أهل النظام العربي يتجهون لبيع كرامة ارضهم وشرف مواطنيهم بثلاثين من الفضة..
يبيعون “هنا صلى عمر”، وصلاح الدين هازم الصليبيين.. ودماء الآلاف المؤلفة من الشهداء والجرحى داخل فلسطين او بين المقاتلين العرب الذين هبوا لنجدتها كمتطوعين بينهم نخبة من القادة وأهل الفكر،
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم،
يا أمة تقتل ابطالها حتى ترتاح من ثقلهم في التاريخ على حاضرها ومستقبلها.
لكن التاريخ ليس يوماً واحداً.. وسيكون هو الشاهد على الماضي والحاضر والمستقبل.
تنشر بالتزامن مع السفير العربي