جاءت زيارة البابا فرانسيس الأول (المولود باسم خورخي ماريو بيرجوليو) إلى العراق وتجواله في أنحائه شمالاً وشرقاً وجنوباً وغرباً، بمثابة شهادة حياة وتوكيد لحضور أرض الرافدين والأهم: استعادة شعب العراق وجوده الدولي ووحدته بعد انحسار موجة محاولات التفكيك وسقوط “حرب الردة” بأبطالها وشعاراتها التقسيمية بدءا بجماعة “القاعدة” المنادين بـ “الدولة الإسلامية” والذين ظهرت أقوى تنظيماتهم وأشرسها وأعظمها بطشاً في العراق، وتحديدا في محافظة الموصل وما جاورها قبل عشر سنوات إلا قليلا… يومئذ مكنتها ظروف الحكم في العراق وانقسام مكوناته من السيطرة على الشمال جميعا والتمدد نحو الشمال الكردي في العراق بعنوان أربيل والسليمانية وصولاً إلى الحدود السورية والتركية، بكل ما يعنيه هذا التمدد من مخاطر على وحدة العراق كما على علاقاته مع جيرانه بعنوان سوريا، والأخطر أي (على) تشجيع الأطماع التركية وتبريرها في التمدد في ظل صدام دموي مع الأكراد وسائر الأقليات العرقية والقومية على الضفتين.
ولقد جاءت زيارة البابا وجولته الواسعة في العراق شرقا حتى الموصل وجنوبا حتى النجف ووسطاً مع قلب بغداد وشمالاً حتى أربيل في كردستان العراق لتظهر صورة جديدة لأرض الرافدين، تؤكد وحدتها وانصهار العراقيين فيها جميعاً.
لقد أكدت جولة الحبر الأعظم وحدة العراق، عبر التوكيد على وحدة العراقيين التي برزت في مختلف محطات الزيارة.
إذا كان من حق السلطة في العراق أن تهنأ على الترتيبات والتنظيم الممتاز لمراحل الزيارة في مختلف محطاتها، فمن الواجب توجيه التحية لشعب العراق على انضباطه وحرصه على أن يقدم صورة مميزة عن تساميه وبعده عن التعصب المذهبي والعرقي. كان شعب العراق واحداً موحداً، منضبطاً ومنظماً ولائقاً ومرحبا بضيفه الكبير كما تجلت هذه الحقيقة واضحة بل وباهرة في مختلف محطات الزيارة.
عبر مئات الأميال، وفي محطات اللقاء والاستقبال وإقامة القداس والصلاة جماعة، تبدى انضباط الشعب العراقي وترحيبه بزيارة القاصد الرسولي، وتعاليه على التعصب والانقسام الطائفي وتقديره البالغ للجهد العظيم الذي بذله قداسة البابا الذي يكاد يتجاوز السبعينات من عمره للوصول إلى العراق، ثم الطواف في أنحائه شرقاً وشمالاً وجنوبا إضافة إلى القلب في بغداد حتى يعود وقد غمره الشعور بالإطمئنان إلى مسيرة العراق نحو التعافي واستعادة وحدته ومعها دوره القومي وتأثيره في محيطه بتوطيد الأمن ونبذ المغامرات التقسيمية بتحويل الهوية الطائفية (مسلمون – مسيحيون) أو العنصرية (كرد، عرب، سريان، آشوريون زيود وصابئة) إلى سبب للانقسام أو ذريعة للانفصال ولو بالتآمر على الشركاء في الوطن.
ولقد كانت مفاجأة مفرحة بقدر ما هي مدهشة، أن يقرر قداسة البابا أن يأتي من الفاتيكان ليتفقد أحوال العراق وأهله الذين، يجتهدون في مواجهة التداعيات القاسية وغير المحدودة ” لسقوط” دولتهم واحتلال أرضهم الوطنية وتباعد الأهل إلى حد الاغتراب عن الوطن وأرضه كما عن الأشقاء.
تخالي.. العراقيون، عبير استقباله قداسة البابا عن لوم الدكتاتورية، أو رفع الصوت بنبذ الطائفية، وشتم الطائفيين ورفع شعار الوحدة الوطنية، في مسح دماء شهداء الفتنة والغلط في قراءة المواقف التي استولدها رد الفعل على ما يحدث.
لقد واجه العراق ضيفه الكبير الآتي بقلقه من الفاتيكان، بواقعه الراهن: هو دولة واحدة لشعب واحد، لكن النفوس مضطربة والأفكار مشتتة وصورة الغد غامضة بعكس صورة الأمس الذي كان لأرض الرافدين وأهلها.
بعد كل الذي كان وجرى- صارت متباعدة، وكادت “العنصرية” أو قوميات بعناوين طائفية ومذهبية، وبرنامج الزيارة ومحطاتها تؤكد “الغربة” وان لم تنف حقيقة أن القوى والأطراف جميعاً وفي الجهات المختلفة ما تزال “عراقية” كما كانت بالأمس وقبل الأمس، ولا مجال لإنكار الهوية أو استبدالها، فالوطن ما زال أقوى من الإنحياز الديني والطائفي على حساب وحدة العراق.
ليس أمام أي عراقي ترف الخيار بين هويته الأصلية القومية، وبين الهويات الأخرى، سواء الأقرب بالجغرافيا أم بالدين من بغداد إلى الموصل ومنها إلى النجف ثم من النجف إلى أربيل تتساقط الهويات المستعارة او المدعاة ويؤكد الناس “عراقيتهم” من فوق طوائفهم ومذاهبهم ومواقع سكنهم. إنهم شركاء في أمجاد التاريخ كما في بؤس الحاضر، هم أبطال المذابح وضحاياها، وهم أهل الغد الأفضل.
لقد أكد العراقيون عبر تراصفهم في استقبال البابا وتعاليهم على الإنقسام الطائفي. إن وحدتهم الوطنية تتقدم على التمايز الديني، فالموصل عراقية كما البصرة، وبغداد عاصمة العرب كما الكرد ومعهم الصابئة والأزيديين والسريان وسائر أصناف الأقليات التي ندر أن تجمعت وعاشت متضامنة مؤتلفة متشاركة في هموم الوطن ومحنته بوصفهم أهل البلاد.
ها هو الدم ينتصر على السيف مرة أخرى: يحمل العراقيون جراحهم على الوجوه، كما في الصدور والظهور وفي الرأس ذاته بالأذنين والوجنتين، يتألمون وتنوح جراحهم، ثم ينتبهون إلى أن وجعهم واحد وإن توزعت الجراح في أنحاء الجسد الواحد.
رئيس الدولة كردي سني،
ورئيس الحكومة عربي شيعي،
والوزراء خليط من الشيعة والسنة والمسيحيين، من العرب العاربة والكرد والسريان واليزيديين والأرمن.
في كل موقع من استراحات الزيارة كان الجمهور “جديداً”: هو ليس من ظهر من قبل، بل هو مختلف في دينه وفي لغته وليس فقط في لهجته، ولكن الجميع عراقيون.
ثلاثة أيام عراقية مليئة بما يوسع في الصدر مساحة للفرح إذ كان العراقيون خلالها يواكبون البابا في زيارته للأنحاء المختلفة، من أرض الرافدين: بغداد والنجف والموصل وأربيل يشاركون في استقبال ضيفهم الكبير، يجمعهم الحزن العراقي النبيل والذي يكاد يتميز عن أحزان الدنيا جميعاً بعمقه المأساوي وترقبه القدري لأيام تحمل له في طياتها الفرح والخروج من مغارة اليأس والخوف والأحزان اليعقوبية.
******
عند المغادرة وقبل الوصول إلى مقره في الفاتيكان، انتبه البابا إلى جغرافيا الزيارة بكل تاريخها وتعقيداتها، وهكذا توجه بتحية خاصة إلى لبنان مع تأكيد على أنه سيزوره في وقت قريب ليطمئن أهله ويطمئن عليهم.
مع القداسة تسمو الوطنية وتشمخ العروبة، التي تمنح الأوطان الهوية الجامعة لأهلها.