هذه دعوة صريحة للامتناع عن انتخاب لوائح السلطة في الانتخابات النيابية يوم الأحد المقبل. لم أكن مضطراً لهذا الإعلان لموقفي لولا بعض الالتباسات التي أحيطت بالأمر، خاصة وأن العيش في منعزلي في كفريا لا يسمح لي بالإعلان عن موقفي سوى بهذه الطريقة.
أحزاب السلطة سواء كانت موالية أو معارضة شاركت فيما وصلنا إليه جميعاً، وهو إفقار المجتمع وإنتاج الكوارث وقمع وإنهاك اللبنانيين بسبب ثورة 17 تشرين. وتعاقب السلطة اللبنانيين بسبب اختراقهم في الثورة الجدار الطائفي وخلق هوية (سوبر-هوية) فوق الطوائف وعابرة لها. إذا كانت قوى السلطة قد لجأت بأجهزتها الأمنية الى القمع، ورفع شعارات طائفية لإرهاب الثوار، فإن الجزء المعارض منها قد خالف مبادئه التي تتعلّق بالاقتصاد الحر والملكية الخاصة وحرية التمويل والتحويل. تكون بذلك قد شاركت السلطة في الخروج على الدستور والقانون. هي أيضاً مشاركة في نظام رأسمالي. سمعت بالأمس أحد المرشحين المعارضين يدافع عن الاقتصاد الحر ورفع دعم الدولة عن الموارد الأساسية. ليس هنا مجال نقاش قرار رفع الدعم، لكن النظام الاقتصادي الحر لم يعد موجوداً. هم موالون ومعارضون في السلطة وللسلطة. ما زالوا يدافعون عن الأوهام من اجل التعمية الرأسمالية، وخلق الوعي وطرائق التفكير التي تمنع المواطن اللبناني الذي سُلخت عنه المواطنة، وجعله عبداً في طوابير الذل. إن مصادرة إيداعات اللبنانيين في المصارف مهما كانت التبريرات هو خرق للقانون والدستور، وهو في نفس الوقت تضييق لمجال الملكية الخاصة وتقليص لها، بتجريد جزء كبير من اللبنانيين من ملكيتهم. الخوف أن يتطوّر الأمر الى سلخ الملكية العقارية، أي ما يسمى الأموال غير المنقولة، بطريقة أو بأخرى. وقد حدث ذلك في تاريخ الرأسمالية وفي كل نظام رأسمالي خلال القرون الخمسة أو الستة الماضية. مصادرة أملاك الضعفاء والمشاعات في كل قرية أو مدينة هي أساس قامت عليه الرأسمالية وما تزال. كان هذا قاعدة التطوّر الرأسمالي الذي أدى الى مزيد من إفقار الناس وسلب ملكيتهم.
دفاعهم عن المصارف، سواء كانوا في السلطة أو معارضين لها، مبني على المقولة الإجرامية التي قادتهم الى فرض الاستنتاج أن المصارف لا يجوز أن تفلس. لكن يجوز أن يفلس المواطنون المودعون، خاصة أصحاب الودائع الصغرى. سقطوا في امتحان النزاهة الفكرية، إذ لم يجيبوا صراحة أو مواربة عن العقيدة التي تمارسها السلطة، وهي أن المواطنين من الطبقات الأدنى يجوز، بل يجب أن يفلسوا، وأن المصارف لا يجوز أن تفلس، دفاعاً عما أسموه النظام الاقتصادي الحر الذي لم يعد موجوداً. إن الودائع في المصارف دين عليها، ومهما كانت اللائمة على “الدولة” أو المصرف المركزي، أو وزارة المال أو غيرها، فإن الدين (الإيداعات) يجب أن يسدد لأصحابه (المودعين). وفي القانون أن من لا يسدد دينه يجب أن يُعاقب. في العصور القديمة كان من لا يسدد دينه يعاقب بأن يصير عبداً.
خلق أهل السلطة الأزمات المتتالية لانهاك الناس وذلهم. أزمات مثل الانقطاع الدائم للكهرباء، وندرة المحروقات وأسعارها، وارتفاع سعر ربطة الخبز والسلع الأخرى، والتزوّد بالمياه، الخ… وأما طوابير الذل فالكل يعاني منها. وصولاً الى تعدد أسعار العملة الوطنية بالدولار، فهو لا يحدث إلا في أنظمة انعدم فيها الاقتصاد الحر. هذا التعدد يعني أن من يسحب قليلاً من الدولارات، أو لديه بعضاً منها في خزانته، فهو يُعطى منها ما يقل عن 15%، وعندما يذهب لشراء حاجياته، يجد أن ما لديه بالليرة يكفي لجزء مما كان يشتريه. وذلك بسبب التضخّم أي الغلاء. والحديث المنتشر حول تخزين بعض الدولارات في البيوت، هل يعني إلا أن العين هي على ما في جيوب الناس أو خزائنهم؟
عن الحجة المنتشرة لدى بعض أهل السلطة والقائلة “ما خلونا”، فهي عذر أقبح من ذنب. أنت لا تعتلي كرسي السلطة، أو يفترض بك أن لا تفعل، إلا إذا كنت تعرف البلد ولديك الحلول وتمارس السياسة من أجل التنفيذ. لا مبرر للعجز، والعجز عن الاعتراف بالعجز عجز أكبر.
عن الثورة وما يقال أنها فشلت، هذا الكلام في غير محله. الثورة لا تنجح ولا تفشل. هي حدث. والحدث حصل. ما كنا نتوقعها وليس لدينا المبرر للقول عن نتائجها. والحمد والشكر أنها حصلت أو حدثت. هي تعبير حقيقي عن حيوية المجتمع.
الولاء الوحيد والمبرر والمصيب هو للثورة. حينذاك صوّت الناس بأقدامهم. عبروا عما يجيش في صدورهم. الانتخابات الراهنة لن تعكس إرادة الناس. الانتخابات ليست الديمقراطية، لكنها ضرورية على طريق الديمقراطية. وعلى المواطن أن يصوّت أو يقترع كما يشاء ولمن يشاء. إذا لم نشارك في الحياة العامة ستكون النتائج أسوأ.
لن أطيل الحديث. أختم مع بيت من الشعر قاله دريد من الصِمة:
“أَمَرْتُهُمُ أَمْرِى بمُنعَرَجِ اللِّوَى … فلم يَسْتبِينُوا الرُّشدَ إِلا ضُحَى الغَد”
الأمر هنا بمعنى النصيحة ولا فرض الرأي.
ملاحظة: “منعرج اللوى” اسم موضع.