إذا ما استثنينا مصر والمغرب فإن العرب، فــي مشرقهم كمــا في شمالي أفريقيا وبعض داخلها، لم يــعرفوا ” الدولة ” إلا قبل أقل من قرن، ولم يتحقق الاستقلال السياسي لهذه “الدول” بمعظمها إلا قبل سبعين عاماً، وربما ستين، أو خمسين، إذا ما استذكرنا ليبيا .. ومعها الخليج بإماراته..
لكن الأنظمة التي قامت في هذه الدول بمجملها ظلت رهينة التبعية والهيمنة الأجنبية برغم ثورات التحرير التي بادرت إليها القوات المسلحة لا سيما بعد حرب الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، حتى العدوان الثلاثي على مصر في أواخر العام 1956، رداً على سياستها التحررية والذي كان الانتصار عليه بداية مرحلة جديدة في التاريخ العربي كانت تبشر بأن يبدأ – أخيرا- عصر الإنسان العربي في بلاد حرة تجمعها وحدة المصير ووحدة الطموح إلى مستقبل أفضل.
كانت المشاعر فياضة، والطموح عظيماً والرغبة عارمة في اللحاق بركب التقدم الإنساني .. وهكذا توالت الانتفاضات والثورات فقامت أول دولة للوحدة العربية في التاريخ الحديث من خلال اندماج مصر وسوريا في الجمهورية العربية المتحدة في 22 شباط 1958، ثمّ أسقط الجيش المملكة الهاشمية في العراق في 14 تموز 1958، وأنزلت الولايات المتحدة الأميركية عسكر أسطولها السادس على الشاطئ اللبناني منعاً للتداعيات في مجمل المنطقة بعنوان لبنان امتداداً إلى الأردن وربما إلى المملكة السعودية ومشيخات الخليج التي لم تكن قد رسمت دولاً على رمل تلك الصحراء التي تكتنز الذهب الأسود .. والغاز !
.. واستقلت الجزائر سنة 1962 بعد مائة وخمسين سنة من الاســتعمار الاستيطاني الفرنسي المتوحش، وبعد أكثر من مليون ونصف المليون شهيد، وقامت فيها جمهورية ديمقراطية ..
ثمّ تفجرت اليمن بالثورة ضد الإمام أحمد حميد الدين في الفترة ذاتها، وأعلنت الجمهورية فيها بدعم مباشر، عسكري واقتصادي من مصر، التي كانت وحدتها مع سوريا قد انتكست بحركة الانفصال التي يمكن اعتبارها عنواناً لحرب الردة التي ستتوالى تداعياتها حتى هزيمة الخامس من حزيران 1967.
… ولقد توالت الانتكاسات بعد ذلك، خصوصاً وقد أوقفت حرب أكتوبر المجيدة قبل اكتمال نتائجها الحاسمة، وافترقت مصر عن سوريا، شريكتها في الحرب والتضحيات بعدما اختار السادات أن يذهب إلى الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي .
كانت فلسطين هي المشعل وهي الحرية وهي هدف النضال وغاية التحرير.
على أن العرش الأردني سرعان ما أحس بخطر العمل الفدائي فضربه، وتشرد المجاهدون الفلسطينيون فكان أن اختاروا لبنان، البلد الذي لا يمكن أن يبقوا فيه ثواراً، لأن نظامه الطوائفي فاسد مفسد، ولا يستطيع شارعه الذي سرعان ما يتحول إلى شوارع متواجهة فتسقط القضية المحقة مضرجة بدمائها …. وهكذا ضرب الفساد الثورة والثوار، خصوصاً وأن أنظمة النفط ( صدام حسين ومعمر القذافي وأقل منهما أنظمة السعودية والخليج ) قد أغدقوا عليها المال والسلاح، مما زين لهم الهيمنة على لبنان، والتصادم على النفوذ مع سوريا التي دخلت قواتها – تحت راية جامعة الدول العربية – مع مئات رمزية من جنود دول عربية أخرى سرعان ما انسحبوا ليبقى الجيش السوري وحده – الخصم والحكم … وظلت الحرب الأهلية تفتك باللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، حتى بداية صيف العام 1982 حين دخلت قوات الاحتلال الإسرائيلي فاحتلت أكثر من نصف مساحة لبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت، مروراً بالقصر الجمهوري في ضاحيتها الجنوبية. وأقام الاحتلال الإسرائيلي انتخابات رئاسية في ثكنة عسكرية ” عيّن ” فيها أحد زعماء الميليشيا المسيحية رئيساً للجمهورية بحراسة الحرب الإسرائيلية … وأخرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان بأكثرية مقاتليها بحراً إلى تونس وأنحاء عربية أخرى بعيدة عن فلسطين إلى أقصى مدى ممكن … وكان على قيادة المقاومة ممثلة بياسر عرفات وقد فقدت الأرض التي تقف عليها، وخسرت مصر التي كانت سبقت إلى كامب ديفيد، أن تقبل باتفاق أوسلو 1994 كمدخل للعودة إلى صيغة ملتبسة توفر فرصة العودة، مع المقاتلين المتعبين، إلى داخل الأرض الفلسطينية على شكل سلطة لا سلطة لها على أرضها، وللاحتلال الإسرائيلي الكلمة على الشعب في مدنه وقراه ومخيماته … مع الاستعانة بشرطة السلطة، حيث تدعو الحاجة، بذريعة ألا يخسر الفلسطينيون هذا المكسب المتواضع متمثلاً بشكليات السلطة: العلم فوق سراي رام الله والحرس الرئاسي، واستقبالات لبعض الزوار الرسميين تراعى فيه شكليات البروتوكول .
… وانفض الصف العربي، عملياً، وإن استمرت القمة العربية كمؤسسة تنازل “قومية” لتقرر خلال انعقادها في بيروت، في العام 2002، ” المبادرة العربية ” ذات الأساس السعودي، التي لا تفعل غير التأكيد على ” مسيرة الصلح مع إسرائيل ” – شرط تجاوبها مقابل الحد الأدنى من الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ( وهي حقوق عربية أصلا وليست فلسطينية فحسب … ).
وكان طبيعياً أن يهرب أهل النظام العربي من آخر التزاماتهم تجاه القضية المقدسة، وأن يتسابق بعضهم إلى إقامة علاقات دبلوماسية وبعض وجوه التعاون مع إسرائيل .. وأن يحتضن ” أصغرهم وأغناهم” – قطر – جماعة الإخوان المسلمين الذين خلع الشعب المصري حكمهم في الميدان، بالتعاون مع الجيش وتحت رايته.
بعد 15 شهراً، اجتاحت قوات الغزو الأميركي العراق، فأسقطت نظام صدام حسين، الذي كان قد قاد بلاده الغنية وجيشه القوي إلى حرب غير مبررة ضد إيران الثورة الإسلامية امتدت لسبع سنوات .. ثمّ ” عاقب ” العرب على تخليهم عنه بأن أقدم على غزو الكويت واحتلالها وتشريد أهلها، فكان أن شاركت قوى عــسكرية عربية تحــت القيــادة الأمــيركية في ” تحرير الكويت” سنة 1991.. ثمّ تقدمت القوات الأميركية لتحتل العراق جميعاً، مستثيرة الأحقاد النائمة بين الطوائف والأعراق، منذ إنشاء دولته تحت الاحتلال البريطاني وقمع ثورة العشــرين الــشعبية ” واستيراد ” الملك الهاشمي فيصل بن الشريف حسين الذي خلعه الاستعمار الفرنسي عن عرش دمشق لتنصيبه ملكاً على العراق في جو طوائفي – مذهبي تعمق تدريجياً بقوة الاستمرار إلى استبعاد للكتلة العظمى من الشعب العراقي عن السلطة .هكذا ضاع العراق، وما زال يكافح لاستعادة دولته ووأد الفتنة التي هددت بضرب لحمته الوطنية، على أن “خلافة داعش” قد أسهمت في اجتياحها الشمال والغرب وصولاً إلى الموصل الجاري العمل على تحريرها بتنبيه العراقيين إلى خطر التمزق الذي يواجه أرض الرافدين ويكاد يذهب بدولته مع وحدة شعبة ..
تحتاج سوريا بنظامها وشعبها حديثاً خاصاً، أكثر تفصيلاً، لأن تجربتها غنية جداً، بنجاحاتها وإخفاقاتها في مرحلتي حكم الأسدين: الأب حافظ الأسد، وابنه الدكتور بشار.. خصوصاً وأن دورها ظل محورياً على امتداد الوطن العربي طيلة أربعة عقود أو يزيد، امتدت بين 1970 واليوم..