نشرت في جريدة “السفير” بتاريخ 26 ايار 1999
في لحظات المواجهة مع الذات، يهتز »المجتمع اللبناني« وقد يأخذه الفزع من صورته كما تتبدّى من خلال وقائع الحياة اليومية، التي تجتمع فيها النقائض، من أقصى التطرف إلى وهدة الانهيار ابتذالاً وتنصلاً من عبء الانتماء.
يكفي أن تطوِّف عينيك في الصفحات (أو الصور) التي تعكس يوميات هذا المجتمع لترى العجب العجاب: من حركته السياسية (؟) إلى أخباره القضائية الملتبسة مع السياسة، إلى المحاكمات الجنائية، إلى تقارير الشرطة وكشوف الجرائم، وانتهاء بالمناسبات الاجتماعية وحفلات الطرب وصولاً إلى انتخاب ملك لجمال الكلاب.
لكأنه مجتمعات عدة، هذا اللبنان العجيب، يقاطع بعضها البعض إلى حد العداوة، مضمرة أو معلنة، في حين أنها تتماثل في سماتها الأصلية، متجاوزة في تماثلها صراعات الطوائف والمذاهب والمناطق ومستويات الدخل بشرائحه العليا وبالرازحين عند حدود الكفاف أو دون قعره، من دون التخلي عن الادعاء بأنها »قصة حظ« أو نتيجة للهيمنة أو لتحكّم الإقطاع السياسي أو الرأسمالية المتوحشة؛ ناهيك بالذريعة الدائمة: تقصير الدولة أو غيابها الكلي!
وعلينا أن نعترف أن »الوحش« الذي روَّع طرابلس، يوم أمس الأول، موجود في كل مدينة وربما في كل قرية، وإن اختلفت أسماؤه وتفاصيل الجريمة.
علينا أن نعترف أيضاً أننا نعرف بوجوده، ونكاد نلمح شبحه يتحرّك بيننا، ونكاد نقرّ بأنه ليس لقيطاً رماه مجهولون ليلاً أمام باب الله أو باب »أحدهم«، بل هو نبت شرعي ترعرع بين ظهرانينا وشبَّ تحت عيوننا، وكان بوسعنا أن نتابع ضياعه وتمزقه بين ما يسمعه من وصايا وإرشادات وتنبيهات من أهله ومن مدرّسيه (إن كان تيسّر له أن يذهب إلى المدرسة)، وبين ما يشهده أو يسمع عنه في الشارع، أو في المقهى أو عند المنعطفات حيث يتبادل أقرانه الحكايات والأخبار التي يلتقطونها من هنا وهناك وقد اختلطت فيها السياسة بالجريمة بمباذل المسؤولين وارتكاباتهم التي تمتد من الرشاوى المباشرة إلى الهدر ناهيك باستغلال النفوذ، إلى الأفلام الجنسية وقصص الاغتصاب والروايات الممتعة عن الدعارة التي تكاد تعم في انتشارها كل الأمكنة حتى هياكل الصلاة.
جريمة »الوحش« في طرابلس هي »الذروة« في بشاعتها، فحسب.
ولقد نشرتها »السفير« في بعض صفحاتها الداخلية، بقرار معلّل: إذ لا تستحق طرابلس وأهلها مثل هذا »التشهير«، فكونها مسرح الجريمة وضحيتها لا يعني بحال »براءة« أو »تطهّر« سائر أنحاء لبنان من أمثال هذا »الوحش« البشري الذي يتميّز فقط بأنه ارتكب واحدة من أفظع الجرائم المركّبة وأقساها وقعاً على النفس، في ميناء الفيحاء.
»الوحش« موجود في كل مكان من لبنان، ويكاد لا يمر يوم إلا وتهزنا واحدة من جرائمه التي غالباً ما تكون ضحاياها صبياناً صغاراً أو فتيات قاصرات… وأحياناً يكون دفاعه عن نفسه أنه قلّد بعض ما رآه مباشرة أو على الشاشة.
»الوحش« ليس حالة فردية، ولا »ينتمي« إلى طائفة بعينها، بل هو »نتاج« مرحلة محددة لم يبق أحد خارجها ولا يستطيع أحد الادعاء بأنه يستطيع محاسبتها أو معالجتها من خارج الاعتراف بها.
لا يكفي، إذن، أن نمصمص الشفاه أسى، أو أن نطالب بإعدام »الوحش« مظهرين التعاطف مع الأسرة المنكوبة بطفلها الذي قُصف عمره من قبل أن يعرف معنى الحياة.
علينا أن نتوقف قليلاً أمام أحوال مجتمعنا وما أحدثته فيه الحرب/ الحروب التي عاشها على امتداد دهر، والتي نشأ فيها جيل كامل من أبنائه حاملاً من أهله كما من محيطه تشوهات وقيماً محطومة، وتمزَّق بضغط أصناف التطرف جميعاً الديني والسياسي والاجتماعي فانسحق أو أنه »هاجر« إلى مظاهر مستوردة من مجتمعات أخرى توصلت إلى نمط حياة معيّن عبر تجاربها وبتأثير ظروفها الخاصة التي يستحيل تعميمها وإن كان من السهل تقليدها، وفيها المخدرات والدعارة والاغتصاب وكل أنواع القتل الفردي والجماعي، في الشارع كما في المدارس، وكذلك بعض أنماط الانتحار الجماعي.
إن جريمة طرابلس تستحق وقفة جادة أمام حال مجتمعنا،
إن الكل مسؤول: الدولة، مؤسسات المجتمع الأهلي، المؤسسات الدينية، الجامعات والمعاهد والمدارس،
لا أحد يستطيع أن ينفض يديه من هذا الأمر الجلل بادعاء أنه لم يشارك في الحرب، ولم يعتد على أحد، ولم يتاجر بجثث الشهداء، ويرفض مصافحة القتلة ولو صاروا حكاماً ويرفض المال الحرام الناتج عن جريمة ولو مات جوعاً.
ولا تلغي العقوبة الرادعة والعادلة التي ستوقع على »الوحش« حتى يعتبر الجميع أنهم قد أدوا قسطهم للعلى فينامون..
هذه ليست مسؤولية وزارة أو حكومة أو جهة بعينها: انها مسؤولية المجتمع كله، حتى لا يتوزع أبناؤه بين القتلة والضحايا والمغتربين داخل وطنهم أو الهاربين منه إلى أبعد المنافي، لكي يعيشوا في »ظروف طبيعية« ولو بقوت أيامهم.
إنه أمر يستحق أن نعقد له مؤتمراً وطنياً، نتدارس فيه جدياً هذه المأساة الوطنية، بالأبحاث والدراسات الميدانية وفي ضوء بديهيات علم الاجتماع وباستكشاف جذور الضائقة المعيشية وانعكاسات نتائج الحرب على جيل ما بعد الحرب… لعلنا نصل الى توصيف دقيق وإلى مشروع علاج ما، ولو على مدى خمس سنوات أو عشر.
المهم أن نوقف توالد »الوحش«، بمعالجة الأسباب حتى لا تعجزنا النتائج.
طلال سلمان