هو عيدك السري، لا شريك لك فيه إلا من يسكن دمك، ويمر بلا احتفال لأن الحياة الثانية التي مُنحتها هي مهرجان فرح مفتوح.
عش نشوتك بصمت يليق بالعمر الجديد. لقد منحك القدر يوماً معلوماً لعيد ميلادك الذي كان مجهولاً، والذي كان تغافل الأهل عن إثباته، شرعاً، يمنعك من الحصول على تأشيرة زيارة لدويلة عربية مذهبة. طريف أن يكون للمرء عيدان لميلاده، الثاني معلوم لأنه منقوش بالرصاص على جبينه، والأول ـ وهو الأصل ـ مجهول لأن ناس تلك الأرض المنسيين يولدون ويموتون ثم يولدون ويموتون ولا أحد يهتم بتسجيل الحضور أو الغياب. ماذا يعني أن يزداد الأطفال العشرة واحداً أو ينقصوا واحداً؟ تعوّد الفلاحون مواسم يفيض فيها الخير وسنوات شح في الرزق يتقبلونها برضا بوصفها إرادة مقسم الأرزاق ومانح الذرية الصالحة من الصبيان والبنات. سبحانه إذا أعطى، وسبحانه إذا أخذ!
عيد ميلادك الثاني سري مطعّم بالدم، وهو بعكس الأول الذي لا يعني غيرك، قد اصطنعه لك الناس الطيبون الذين احتضنوك بعيونهم الدامعة فرحاً والزغاريد التي لا تنطلق بالطلب، وأنت في طريق عودتك إلى الحياة.
ماذا تريد بعد؟ لقد دخلت التاريخ عبر بوابة الثورة الفرنسية!
[ [ [
أنت الآن في قلب ذاكرتك التي أخطأها الرصاص، تسترجع ـ مرة أخرى ـ الوقائع التي تستعصي على النسيان، فالاستثناء الذي كان يسكن المستحيل غير قابل للتكرار.
كم كانت الساعة بالضبط؟ مرجعك خيوط الفجر التي كانت تشق قلب الليل الذي تحتشد فيه أشباح المقتتلين على مصادرة الصباح: توقفت السيارة أمام بوابة البناية التي فيها بيتك الذي غادرته محرجاً تحت إلحاح صديق طائر يعبر فضاء السياسة، ويريد أن يعرف كل شيء عن كل الآخرين في الوقت الفاصل بين طائرتي ليل.. لأن المعرفة استثمار. أطفأ السائق المحرك فساد صمت العتمة للحظات. فتح الباب وترجل متعجلاً كعادته فلفحه شهب النار الذي كنت هدفه. جمد في مكانه، برهة، مصعوقاً بالدوي الذي أخذ يتردد مرة ثانية فثالثة حتى غمر الفضاء، قبل أن يستعيد الصمت هيمنته وإن اخترقته همهمات وجع يخاف من رفع صوته به حتى لا يحدد للقناص موقع “الهدف” بدقة.
تدوي في وجدانك مجدداً الطلقات الثلاث التي تمدد صداها في قلب الليل حتى ذاب تماماً، ليرتفع أنين من أطفأت الشظايا عينه اليمنى، بينما انشغل رفيقك الذي اخترق الرصاص صدره بالبحث عن عابر سبيل أو جار مشفق استدرجه الدوي ليعرف مصدره فيرضي فضوله ويشهد على ما حدث.
وحين وصل من سيتولى النجدة، سبقته الريبة والشك في غرضه.. فالملابس عسكرية، لكنه يبدو وكأنه خارج على الجندية التي أفقدتها الحرب الأهلية مرجعيتها: الدولة. ولم يكن ثمة خيار، ونواح ينابيع الحنان والعشرة الطيبة من النسوة اللواتي هبطن متعجلات يتحول تدريجياً إلى صراخ مع افتقاد من ينقذ الجرحى بحملهم إلى المستشفى. وهن لم يسمحن له بقيادة السيارة بجرحاها إلا بعد تحقيق مطول شمل أسماء الأب والأم والبلدة وأسباب وصوله إليهم قبل الآخرين.
[ [ [
إنه عيد ميلادك الثاني. إنك الآن في شرخ شبابك، تقف أمام بوابة الثلاثين وترمق بعطف غامر العمر الأول الذي لم تغادره ولم يغادرك بل هو يمتد بالإضافة المباركة ويتجدد ويجدد فيك إيمانك بالحياة. لا بأس بخسارة شيء من وسامة الوجه الذي جرحته الشظايا. لا بأس بوسام الجرح على الجبين. لا بأس بتجديد الفكين طالما أنك نجوت من شلل محتمل أو مما هو أسوأ.
ما أكثر التفاصيل الصغيرة التي ترتسم على صفحة حياتك فتشكلها. تجملها حتى تذوب في عشقها لتباغتك ـ بعد لحظة ـ بأنها ليست نهراً متدفقاً من نهارات السعادة وليالي الهناء، ثم تعود فتستعيدك إلى أحضانها لتمنحك رضا عن النفس قد يتفجر إبداعاً، وقد يأخذك إلى الشغف بها بما يجعلك تغفل عن إشكالاتها التي تتوالد باستمرار فتسحبك إلى وادي الهموم فتنسى أن تعيشها.
[ [ [
كثيرون دخلوا التاريخ أو أُدخلوا إليه برصاصة. ها أنت قد غدوت داخل التاريخ بثلاث رصاصات، ويمكنك أن تتحدث ـ طالما أنك لم تغادر دنيانا ـ بوصفك من ساكنيه، مع أن الحياة، ولو عادية تظل أجمل من أن يسبق الحديث عنك فعل “كان”. ففي الحياة ما لا يعوّضه الخلود. ماذا يمكنك أن تعطي حبيبك وأنت تمثال من رخام، أو كتلة من البرونز، أو كتاب فخم الغلاف، أنيق العبارة، مرصوف على رف مكتبة فيها مئات المجلدات والقواميس والمراجع التي تأخذك إلى الماضي في محاولة لإدخالك الغد.
لعلك قد نسيت الكثير من التفاصيل، لكنك تتذكرها وهي تنحني عليك بحنان وتحتضن وجهك وتشرق بدمعها: حبيبي! أنت أقوى من رصاصهم. أصلب من غدر المجرمين. لن يصيبك سوء. هكذا يحدثني قلبي والقلب لا يكذب.
تذكر أنك ابتسمت وتمتمت بكلمات مقطعة فهمت منها أنك تطمئنها، ثم حرّكت يدك وأنت تهمهم: الأولاد، بهدوء! قالت: اطمئن، سيكونون على قدر المسؤولية. اطمئن.. ستكون لك الحياة، وسنكمل مشوار العمر معاً. إن الله أكرم منهم. الحمد لله!
مدت يدها برزمة من المناديل تمسح الدم عن وجهك بينما أنت تحاول أن تمسح دمعها بكفك المرتعشة.
غبت لحظات، واضطربت ذاكرتك قليلاً، ثم عادت تستحضرك كلك، وتتابع برنامجها الثابت كالمعتاد: مواعيد اليوم، اتصالات الأمس التي لم ترد عليها، أسماء من لا بد أن تحميهم من صدمة الخبر بأن يسمعوه منك قبل أن تطلقه الإذاعات. ولكم استخرجت من اللفائف صوراً لأحداث كافحت حتى أمكنك نسيانها أو تناسيها. ولكم استعدت صوراً لمن أحببت، ولمن أخطأت معهم فلم يسامحوا ولمن أخطأوا فسامحت فطالبوك بالاعتذار.
[ [ [
مرّ شريط طفولتك سريعاً. استذكرت جدتك معطوبة السمع والتي كانت تقرأ النوايا قبل الشفاه. وأطلت، فجأة من البعيد البعيد، صور رحلتك الأولى والأخيرة في القطار الذي أحيل إلى التقاعد بدل أن يتم تحديثه: مشياً على الأقدام لمسافة طويلة، ثم ممسكاً بيد أمك، خلف البغلة التي اعتلاها جدك بينما شقيقتاك التوأمان ترقد كل منهما في إحدى “عينتي” الخرج في الطريق إلى المحطة في رياق، لتلتحقوا بالوالد الدركي في رأس بعلبك.
أطل، عبر الأفق الأغبر البلا حدود الوجه الدقيق الملامح، المبتسم العينين، فاندفعت نحوه معانقاً: جدي!
قال العجوز الذي قلبه أكبر من جسده النحيل: سمعت فجئت لأطمئن!
لم أسأله كيف هبط إلينا من البعيد الذي لا يرى. قلت متعجلاً: تعال كما في الأيام الخوالي تحكي لي عن الجميلات اللواتي غنيتهن حتى النشوة..
قال وهو يغضي ببصره: ذلك زمن مضى. ذهبت الجميلات وذهب الصوت، ذهب زهو الشباب..
ألححت فصمت قليلاً ثم بدأ يترنم بلحن شجي. كان صوته خفيضاً سرعان ما تدفق نهراً من العذوبة.
ـ الحب.. دائماً الحب!
ورد الرجل الذي تجاوز المئة من دون أن تشيخ روحه: أغناء بلا حب؟ وحدها المرأة تطلق الصوت جميلاً. هي الموسيقى، والتفاتتها الغواية، وفي عينيها يسكن الشوق إلى الحياة.
صمت لحظات قبل أن يضيف: رحم الله جدتك. كانت تسمع الحكايات وتنتبه إلى النساء يتغامزن عليها وهي تملأ الجرة من العين، ولكنها كانت تتجاهل ذلك كله. ثم تأتي إلي لتقول: لقد رآك البعض في القلعة مع فلان وخلفك صبيتان. ولمحتك مرة تغني من خلف دوالي العنب لجارتنا الجميلة التي تقصد كرمها كلما كنت هناك… وطالما أنك لا تهملني ولا تغمطني حقي فافعل ما تشاء.
انتبه، فجأة، إلى أن أباه يقف في الباب مستنداً إلى عصا. نظر في عينيه، فأخفى دموعه، ثم حاول أن يرفع صوته باللحن الشجي: “عريس، عريس، مد الكف واتحنى..”، قبل أن يختفي حتى لا يراه باكياً.
حاول ان يرجعه إليه. همهم: أريد أن أرد إليك أعظم ديونك! أتذكر تلك الليرة الأخيرة التي كانت معك والتي أعطيتني نصفها؟! ان بركاتها ما تزال تيسر أمري..
لكن الأب كان قد انهمك الآن في استقبال المهنئين: لقد حمى موقفه بدمه!
[ [ [
استذكر كلمات جده: الحياة نهر متدفق وعميق، لا مجال لوقفه أو اعتراض سيله الجارف. لقد تهاوى الرصاص أمام قدرك، فاترك له أن يحدد المسار، وتقبل قدرك بالغناء. غنِّ إذا جاءت لحظة الفرح، وغنِّ إذا دهمك الحزن. واحرص على ألا تبكي وحدك إذا ما حزنت، وألا تفرح وحدك إذا ما هزك الطرب.
واستذكر كلمات أبيه: ليكن الفرح سلاحك الدائم. فأما القدر فلا مجال لتغييره، فارفع رأسك وامض في طريقك طالما آمنت أنه الحق.
[ [ [
اقتربت تمسح جبينه وتساعده على الوقوف. قصد المرآة فرأى الضمادات تغطي وجهه المتورم كله ما عدا عينيه. حاول أن يبتسم، فأوجعته المحاولة. قالت وهي تأخذ بيده: غداً ستخفف الضمادات وسيمكنك أن تضحك.
اقتحم الأبناء الغرفة يتقدمهم الفزع. وحين رأوه واقفاً هدأوا، أحنى رأسه ليحتضنهم فغمروه بدموعهم، قبل أن ينفجروا ضحكاً وهم يتأملون “عمامته”. قال: سأخرج بلحية!
قالت الزوجة وهي تنظرهم فرداً فرداً: الحمد لله. لقد أضيف إلى أعمارنا عمر. وها قد صرنا نعرف موعد الاحتفال بعيد ميلادك.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 15 تموز 2011