“لأن “الصلح المنفرد” قد يكون حرباً على الذات ولكنه ليس نهاية الدنيا ولا هو الخاتمة الصحيحة لصراع الوجود، فقد كان لا بد من هذه التحية للمقاتل العربي الأخير من موقع المسؤولية، حافظ الأسد، في الذكرى العشرين لحرب تشرين (حرب العبور، حرب أكتوبر، حرب الغفران).
بل إنها تحية لكل أولئك الذين قاتلوا ببساطة وبذلوا دماءهم بسخاء، من أجل استنقاذ شرف الأمة وكرامة إنسانه وإثبات جدارته بالحرية وأهليته لصنع النصر.
لقد حاولوا، وأعطوا أرواحهم، بغير منة، لشرف المحاولة، فلا أقل من أن نستذكرهم في زمن النسيان وصقيع الحاضر المهزوم واتلهرب من تبعات التشبث بالأرض والحق والهوية والشعار الصحيح.
هنا مقتطفات مستقاة من آخر لقاء مع الرئيس السوري حافظ الاسد، قبل شهرين تقريباً، وقد احتلت الذكريات الحميمة لحرب تشرين بشهودها وشهدائها حيزاً أساسياً، خصوصاً وإنها الحرب اليتيمة التي اتخذ العرب القرار بمباشرتها، ثم اتخذ “الأجنبي” القرار بإنهائها بما يناسب مصالحه حينذاك، قبل عقدين، وحتى اليوم بصفقات الصلح المنفرد التي دبرت وتدبر في ليل…”.
ليس أحب إلى نفس حافظ الأسد من الحديث عن حرب تشرين، ودور المقاتل العربي فيها.
إنه ينسى نفسه، ينسى الوقت، ينسى حتى محدثه، ويسرح مع الذكريات الحميمة، الأسماء الحميمة، الوقائع الحميمة، ويسترجع تفاصيل التفاصيل، ويتدفق يحيوية فائقة مستعيداً كل نامة، كل قرار، كل حوار، كل مكالمة جاءته، كل أمر أصدره، منذ الاتفاق على ساعة الصفر، وحتى النهاية المأساوية للمحاولة الشجاعة التي أريد بها الخروج من ليل الهزيمة، فإذا بتخلي “الشريك الأكبر” يقلب النصر المحقق إلى مشروع هزيمة جديدة تلتهم مع الدماء والدبابات الأحلام والمواقع المستعادة بوهج الدم وقدرته على الاختراق:
“- كانت أياماً عظيمة. كانت أياماً من تلك التي تصلح نهايات لحقب وبدايات لتاريخ جديد. إنني أتذكر كل تفصيل. أتذكر كل العمليات التمويهية التي قمنا بها حتى لا يفتضح السر. أتذكر الرحلات التي قمنا بها، الرئيس أنور السادات وأنا، وتلك التي طلبنا من قادتنا العسكريين أن يقوموا بها، تارة كسواح، وتارة كرجال أعمال، والتي استخدموا خلالها أسماء مستعارة، كركاب عاديين، فركبوا البحر إضافة إلى الطائرة، والتقوا حيث لا يمكن أن يخطر ببال متابعيهم أن يكونوا بصدد الإعداد لحرب يتوقف عليها مصير الكيان الصهيوني ومستقبل الأمة العربية…”.
تتبدل ملامح حافظ الأسد، وترق نبرات صوته، وتنضح الكلمات بدفء الذكريات الحميمة مع رجال أعطوا حتى الرمق الأخير وما بدلوا تبديلاً:
“- كانت القفزة الأولى رائعة وناجحة بتفاصيلها جميعاً. وأذكر أنني تدخلت شخصياً لحسم بعض الإشكالات، كان القادة العسكريون السوريون يريدون أن تبدأ المعارك مع أول شعاع شمس ليفيدوا من النهار بطوله في التقدم عبر أفخاخ الدبابات والكمائن وحقول الألغام الإسرائيلية المزروعة في الجولان المحتل. لكن الأخوة في القيادة العسكرية المصرية كانوا يفضلون أن تبدأ المعركة مع آخر خيط ضوء لكي يتجنبوا هجمات الطيران الإسرائيلي. وكان لكل من الفريقين حججه القوية في تدعيم وجهة نظره. ولقد تدخلت شخصياً باقتراح الحل الوسط، وعلى أساسه تم تحديد ساعة الصفر في الثانية من بعد ظهر ذلك السبت الأغر في السادس من تشرين الأول 1973، العاشر من رمضان، المصادف فيه عيد الغفران اليهودي…
“كان الموعد مثالياً، إذ لا يمكن أن يخطر على بال أعتى رجال المخابرات. فليس مألوفاً أن يقرر العرب المباشرة بالحرب، فكيف إذا كان الشهر رمضان، والموعد بعد الظهر وقبل الإفطار؟!
“أتعرف؟! لقد أصر العديد من المقاتلين في صفوف الجيش السوري، وربما أكثر منهم في صفوف الجيش المصري أن يحافظوا على صيامهم. رفضوا أن يفطروا، واعتبروا أن استشهادهم وهم صائمون يقربهم أكثر من الجنة.”.
يطفو الحزن على صفحة الوجه الهادئ وفوق الكلمات، ويلوح طيف النصر الذي كان على مدى الذراع عبر صور “القفزة الأولى” الرائعة التي كانت كفيلة بتحطيم أسطورة “جيش الدفاع الإسرائيلي الذي لا يقهر”… وتأتيني كلمات حافظ الأسد من بعد سحيق:
“- حيث تمت المواجهة رجالاً لرجال لم يكن ثمة شك في هوية المنتصر. (تتسع الابتسامة فتغدو أقرب إلى ضحكات قصيرة متقطعة قبل أن يضيف: إن أولاد الفلاحين والعمال والفقراء عموماً يقاتلون جيداً لأنهم يحبون الأرض ويتعلقون بها ويقدسونها إلى حد افتدائها بأرواحهم. إنهم يعرفون أن لا كرامة لهم ولا حياة من دون الأرض. إنها مصدر شرفهم بقدر ما هي مصدر رزقهم. ثم إنها مثوى أجدادهم، منهم ترابها، وهم من ترابها وغليه المآب. لعلها المقدس الوحيد في ما يعرفون..”.
قبل الوصول إلى المحطة – المفخرة تكتسي نبرة حافظ الأسد شيئاً من الفخر المتداخل مع الحزن العميق، ويأتيك الصوت جليلاً يليق بالمناسبة:
“- لا بد أنكم قرأتم، كما الكثير من المواطنين العرب عن المعركة المشرفة لتحرير المرصد في جبل الشيخ. كان ذلك المرصد موقع تحكم بالحركة في مختلف أنحاء الجولان. ومن هناك كان الإسرائيليون يستطيعون توجيه المدفعية والدبابات والرمايات عموماً لشل أي حركة هجومية يمكن أن تباغت من في السفح.
“كان الوصول إليه مستحيلاً إلا بالطوافات.
“وتحت قصف مدفعي كثيف جداً، تم إنزال مجموعات من الوحدات الخاصة، أغلبهم من المتطوعين الذين أبلغوا أنها قد تكون رحلة لا رجوع منها… كانوا رائعين. لقد دفعوا ثمن تحرير أرضهم غالياً، لكنهم أنجزوا، كانوا رجالاً قاتلوا ببسالة حتى أتموا تطهير المرصد ورفعوا العلم العربي السوري فوقه. وحين تم الاتصال وسألنا عن الخسائر جاءنا الجواب: لقد قتلنا منهم أكثر مما استشهد من رجالنا، ثم إننا حررنا الموقع وأخذنا العديد منهم أسرى. لم يمت رفاقنا هباء. إنهم الأبطال الحقيقيون للتحرير…”.
يستطرد حافظ الأسد، مستبقاً أسئلتك، مستعيداً بقية الوقائع المشرفة للقفزة الأولى:
“- جرى كل شيء وفق الخطة المرسومة وبطريقة رائعة. كانت خسائرنا قليلة نسبياً، لأن النجاح كان مطلقاً في مباغتة العدو. وبالفعل فقد أوصلتنا القفزة الأولى إلى مشارف بحيرة طبريا، وكنا نعرف أن لهم جيوباً خلف خطوطنا الجديدة. فنحن لم نعن بتطهير الأرض. كان همنا أن نستدرج إلى الجولان قسماً كبيراً من جيش العدو بحيث يتسنى لأشقائنا المصريين أن ينجحوا في التجربة الصعبة، وأن يتخطوا أهم حاجز مائي، وأن يحطموا خط بارليف قبل هبوط الظلام.
“وكنا مطمئنين إلى سلامة الخطة. فبعد خط بارليف سيكمل الجيش المصري زحفه لتحرير الممرات، في قلب سيناء، مجبراً قيادة العدو على تركيز جهدها العسكري هناك، ونفيد نحن من الفرصة في استكمال تحرير أرضنا المحتلة، مما يتسبب في إرباك العدو فلا يعود قادراً على الاستفراد بأي منا، فإذا تحول إلينا واصلت القوات المصرية ضغطها متجهة بعد الممرات إلى العريش ورفح، مطلة على الأرض الفلسطينية المحتلة، وغذا ركز على المصريين تقدمت قواتنا عبر منحدرات الجولان لتتصل بالقوات الأردنية التي لا يمكن أن تبقى على الحياد، فتصبح المستوطنات الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية تحت رحمة مدافعنا ودباباتنا…”
يستدرك حافظ الأسد، بمنطق العسكري المحترف، فيقول:
“- كنا نعرف المخاطر، وأبرزها طول خطوط التموين والإمداد، واحتمالات ضربها، وإرباك قواتنا المتقدمة، لكن توسيع ميدان المواجهة كان بين الضمانات العظمى… ولكننا ومع اليوم الثاني للهجوم، بدأنا نستشعر جواً من الريبة، وطاردتنا الأسئلة المقلقة. فكنا – لحسن نيتنا – نردها إلى شيء من الارتباك أو القصور”.
تختفي نبرة الفرح والحماسة، ويعود الحزن ليظلل كلمات الرجل الذي كان يدبر المعارك ويتلقى الأخبار المغايرة لتوقعه، بسبب التغيير الطارئ على الخطة في الجبهة المصرية… ويقول حافظ الأسد:
“- ليس أدرى مني بفداحة التخلي ومرارات رفيق السلاح حين يتخلى عنه شريكه في معركة المصير. لقد خذلني السادات. اعترف أنه قد نجح في خداعي. ولم أكن أتصور أن يصل الخداع إلى أرواح الرجال ودمائهم، إلى الحرب التي قد تغير التاريخ ومع العدو القومي. وليس إلا بعد وقت طويل نسبياً (فالساعة دهر في الحرب) حتى أدركت وتيقنت أن السادات يريدها حرب تحريك لا حرب تحرير.
“في ما بعد، عرفت بالملموس، وسمعت شهادات حية من أركان القيادة العسكرية المصرية، تفيد أن السادات عرض علي خطة (غرانيت 2) وإنه نفذ خطة أخرى كانت معتمدة فعلياً هي (المنارات العليا). والأولى حرب تحرير لكامل الأرض العربية المحتلة سنة 1967 (العائدة لكل من مصر وسوريا) وفرض التفاوض على الأرض الفلسطينية المحتلة، في حين أن الثانية لعبور القناة والتوقف هناك، وتركنا نواصل حركتنا وانفلاشنا على جبهة مواجهة عريضة ما كنا لنتمدد فوقها لولا افتراضنا أن ثمة جبهة أصلية أوسع وأهم هي الجبهة المصرية بامتداد سيناء، أو أقله حتى الممرات..”
تقطر المأساة والشعور بالخذلان كلمات حزينة، تسمعها من حافظ الأسد:
“- لماذا الخداع؟! لماذا تبيعني وأنا شريكك بالدم؟! لقد ذهبنا إلى الحرب معاً، فكيف تتركني أتحمل أعباءها وحدي وتذهب إلى التفاوض من دوني؟! هل استخدمتني لكي يفتح لك باب المفاوضات؟! إنها ليست مناورة سياسية، إنه لعب بدم الشعوب، فهل يمكن أن يغفر الشعب اللعب بدمه؟!”
يصمت لحظات، ولا تجد كلمات تناسب المقام، فتكتفي بتأمل وجهه وهو يكمد، ويلمع في عينيه الغضب الذي لما تنطفئ أواره، قبل أن يضيف:
“- لقد جرت أعظم معركة للدبابات إطلاقاً فوق الشريط الضيق المسمى الجولان. لم يحدث حتى خلال الحرب العالمية الثانية أن احتشدت ثلاثة آلاف دبابة في مساحة لا تتعدى خمسة وستين كيلومتراً مربعاً. وهي كانت معركة ضرورية لتخفيف الضغط عن الكتلة الأساسية من فرق الجيش التي كانت قد نشرت على طول خط المواجهة لاستدراج أكبر قوة ممكنة من الجيش الإسرائيلي، لتمكين الجيش المصري من إنجاز ثم من حماية قفزته الأولى عبر القناة وعبر الممرات التي لم يقصدها أبداً، بنجاح.
“… قلت له، في واحدة من أعنف المكالمات الهاتفية، وبعدما اكتشفنا الخديعة: هل تعرف ماذا تفعل بي؟! إنك تطلق علي الجيش الإسرائيلي بكامل قوته، بينما نحن في وضع صعب ما كنا لنتخذه لولا إننا اعتبرناك شريكاً في الحرب كما في السلام، شريكاً في المصير، لقد نفذنا خطة تجعل الجبهة المصرية هي الأساس. وكان علينا أن نشاغل العدو فوق أوسع خط نار ممكن من أجل تأمين نجاحكم على خط القناة وصولاً إلى الممرات، الآن تخذلوننا، وتتركوننا في مواجهة القوة الإسرائيلية كلها، وتتخلون عن الخطة وعن الممرات.. ما هكذا يفعل رفيق السلاح!”
لعل تلك الأيام بوقائعها المثيرة هي التي تفسر مرارات اليوم في مواجهة الصلح المنفرد الثاني، الذي عقده رفيق سلاح آخر هو رئيس منظمة التحرير الفلسطينية.
وليس سهلاً خداع حافظ الاسد.
لكن ما الحيلة في من يبيع دماء شعبه رخيصة؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان