اختتم إسحق رابين محادثاته مع “الإدارتين” الأميركيتين، أمس، بإعلان تقصّد منه أن يوحي بأن واشنطن قد خرجت – أو أنها في طريقها للخروج – من ساحة المفاوضات الإسرائيلية – السورية.
فحين يعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية في و اشنطن ومنها ما يشبه البلاغ بقطع المفاوضات مع سوريا ، فلكأنه ينعي – بداية – الدور الأميركي الذي من دونه لا يمكن أن تستمر المفاوضات، فكيف بأن تصل إلى نتيجة ما.
هناك “سلامان”: “سلام” يريده الرئيس السوري حافظ الأسد، و”سلام” آخر يريده إسحق رابين، وكانت واشنطن هي التي كلفت نفسها بالسعي للوصول إلى صيغة ثالثة لسلام يقبله الطرفان المتواجهان عندها وعبرها.
“لست متأكداً من أن إسرائيل ستكون قادرة على دفع الثمن المطلوب”.. يقول رابين.
لم تتعوَّد إسرائيل أن تدفع. كان الطرف العربي هو الذي يتبرّع فيندفع إليها دافعاً من حقوقه وحقوق أشقائه الثمن المطلوب، وفوقه “حبة مسك”.
هكذا فعل أنور السادات في العام 1977، بالزيارة سيئة الذكر، ثم بما دفعه بعدها من حقوق مصر ورفيق السلاح السوري، وصاحب القضية الفلسطيني، وسائر “الشركاء” العرب،
وهكذا فعل ياسر عرفات قبل خمسة عشر شهراً في أوسلو، مختصراً فلسطين في غزة والتحرير في شرطة فلسطينية لحراسة حدود الاحتلال الإسرائيلي،
وهكذا فعل الملك حسين بعده في وادي عربية، مفتتحاً عهد “الشراكة” أو “الاتحاد” بين العبقرية اليهودية والسخاء العربي الذي لا يتوقف كثيراً أمام الثمن المطلوب، وهل هو من الأرض أم من المياه أم من النفط أم من ذلك كله مجتمعاً ومعه كل ادعاءات الحرص على السيادة والقرار الوطني المستقل والالتزام بالمسؤولية القومية!
بل إن ثمة أطرافاً عربية سارعت إلى “الدفع” من قبل أن يطلب منها، وهي تفترض أنها بذلك تشتري أمن مستقبلها، حتى لو خاطرت بأمن حاضرها المضطرب.
على هذا فليس مبالغة أن يوصف “السوري” بأنه المفاوض العربي الوحيد، لأن الأطراف العربية الأخرى استسلمت أولاً ثم انهمكت في المفاوضات على تفاصيل ما بعد الاستسلام.
وعلى هذا فلقد كان من حظ لبنان أن يربط مساره بالمفاوض العربي الوحيد، حتى يتجنب ما لا طاقة له به مما فرض الأطراف الآخرون على بلادهم أن تدفعه ثمناً لسلام غير مضمون، برغم كلفته الباهظة والتي غالباً ما تتجاوز قدراتهم وأهليتهم للالتزام بما وقعوا عليه.
السؤال دائماً عن موقف واشنطن، واشنطن بالأغلبية الديموقراطية في الإدارة والكونغرس، وواشنطن الممزقة أو المعطلة الدور بين إدارة ديموقراطية وأغلبية برلمانية جمهورية.
فمن دون واشنطن تتوقف حكماً المفاوضات السورية – الإسرائيلية.
لا مجال لمفاوضات مباشرة من دون رعاية أميركية ودور أميركي نشط وفاعل قد يتخذ صفة “الوسيط النزيه” ولكن المطلوب منه وبإلحاح قدرات “الشريك الكامل”،
ولا مجال لصفقة تتم في ليل، وعبر قنوات سرية، تنتهي فجأة بفجيعة عربية تبهر العالم، وهو ما يلح عليه الإسرائيليون دائماً، ولاسيما أنه يعتمد القاعدة الذهبية لنجاحاتهم المتوالية.
وبالطبع لا مجال ولا فائدة من رفع مستوى المفاوضين بينما لا مفاوضات فعلياً، فليست الألقاب هي صاحبة القرار، لكنه الموضوع أو الثمن حسب التعبير الإسرائيلي، أو استعادة الحق حسب التعبير العربي.
هل تراه حقق “النصر” الذي عمل إسحق رابين دائماً لكي تنجزه، فأخرج واشنطن أو عطلها تماماً، معلقاً بذلك المفاوضات إلى أجل غير مسمى؟!
لقد عملت واشنطن طويلاً، وبجهد دؤوب، حتى أمنت وصول رابين إلى السلطة في تل أبيب بوصفه “المفاوض” الجدي الراغب في الوصول إلى “سلام” مع “جيرانه العرب” على قاعدة مؤتمر مدريد،
وها هو رجل واشنطن يزيح واشنطن، أو يلوّح بإزاحتها، مفترضاً أنه بذلك يفقد سوريا موقع قوة لم تحققه إلا بشق النفس، وبفضل القدرة الاستثنائية لقيادتها على قراءة التحولات والتمايز بين مصالح الحليفين الاستراتيجيين: الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل.
هل وجد رابين فرصته في نتائج الانتخابات الأميركية؟!
أم أنها مناورة جديدة لابتزاز جديد، قبل أن يستوعب الرئيس الأميركي المندفع إلى زيارة دمشق من دون دعوة، هزيمته الداخلية الجديدة بمفاعيلها على سياسته الخارجية بعدما أكد الأميركيون أن الخارج لا يعنيهم كثيراً، باستثناء إسرائيل التي تظل دائماً في داخل الداخل، الجمهوري كما الديموقراطي؟
والكلمة تبقى للمفاوض العربي الوحيد، الذي لن تزداد حدة وحدته بعد هذا التهديد الإسرائيلي الموجه أساساً إلى واشنطن.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان