في النصف الثاني من آذار1984 وخلال المؤتمر الثاني للحوار الوطني المنعقد في لوزان بسويسرا برزت ثلاثة مواقف تركت بصماتها على مصار الأحداث في لبنان بعد ذلك:
*الموقف الأول – غياب ريمون اده، الذي كان غاب من قبل عن المؤتمر الأول المنعقد في جنيف قبل أربعة شهور، انطلاقاً من اعتراضه المبدئي على تشكيل المؤتمر الذي أعطى الميليشيات و”أبطال الحرب” أكثرية المقاعد ومن ثم الحق في تقرير مستقبل لبنان، في حين إنهم هم بين أسباب الكارثة التي أصابته، حسب منطق العميد.
*الموقف الثانيث – نشوب معركة قاسية عنوانها ميشال عون.
كان رئيس الجمهورية، المطعون في شرعيته حتى انعقاد المؤتمر، “يناضل” باستماتة من أجل انتزاع موافقة الأطراف المعارضة على تعيين العقيد، آنذاك، ميشال عون قائداً للجيش خلفاً للعماد إبراهيم طنوس الذي حمّل أوزارحروب بيروت والجبل والضاحية وضرب وحدة الجيش بتفريعه إلى ألوية لكل طائفة منها بقدر نفوذها وحصتها في النظام.
ولقد كانت الحجة الأساسية التي كان أمين الجميل يبرر بها إصراره على التعيين إن ميشال عون هو الضابط الوحيد الذي ترضى به “القوات اللبنانية” قائداً للجيش..
وللتذكير: فقد كانت “القوات” في بيروت على سلاحها آنذاك، تفرض جواً قتالياً بحجة إنها قد استبعدت عن المؤتمر، وإن وجود كل من الراحلين كميل شمعون وبيار الجميل ومعهما رئيس الجمهورية أمين الجميل لا يعني بأي حال إنها ممثلة وإن قراراتهم ملزمة لها!
وبعد جدل مستفيض، لم تغب عنه الحدة، تدخل الطرف السوري الذي كان يرعى المؤتمر لإقناع المعارضين بالموافقة على هذا التعيين تسهيلاً لمهمة أمين الجميل، خصوصاً وغنه كان قبل أسبوع فقط قد أعطى ما لا يقدر بثمن: إلغاء اتفاق 17 أيار.
كان المنطق يومها : – لا يهم أن يكون ميشال عون مرشح “القوات” فالضمانة موقف رئيس الجمهورية!
*الموقف الثالث – التطور الصاعق الذي حكم نتائج المؤتمر البائس، وهو الذي تمثل في انتقال الرئيس سليمان فرنجية من موقع إلى الموقع المضاد تماماً حين صار الحديث عن الاصلاح الدستوري وإعادة النظر في الصيغة أو في حصص الطوائف في تطبيقات النظام، أي في السلطة.
وشهيرة هي الوقائع التي سبقت هذا التطور، وكيف “استنجد” أمين الجميل بنخوة سليمان فرنجية لكي يتمكن من مواجهة الضغوط القومية علية للتنازل عن الامتيازات أو الضمانات التي يتمتع بها الموارنة.
ولقد تندر الناس، طويلاً، في لوزان ثم في بيروت وأنحاء أخرى، بمضمون رسالة الاستنجاد التي بعث بها أمين الجميل مع مستشاره الدكتور وديع حداد، ومفادها: إنه يجد نفسه وحيداً في مواجهة المسلمين. فالشيخ بيار الجميل غائب عن الوعي، غالباً، والرئيس شمعون تاجر يبيع ويشتري ولا يمكن الاعتماد على مقاومته للاغراءات!
وكان ما كان في لوزان، إذ بانتقال الرئيس فرنجية إلى الصف الآخر اتخذ النقاش حول الاصلاح طابع الانقسام الطائفي الحاد فصار متعذراً، وهكذا انصب الجهد على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ذلك المؤتمرالذي انهار دون تحقيق الغاية المرجوة منه.. في نظر المعارضين وأنصار التغيير في الاصلاح، على أقل تعديل!
اليوم، وبعد أربع سنوات وخمسة شهور على ذلك المؤتمر المنتكس دون أهدافه يجد الناس أنفسهم أمام مفارقة عجيبة:
فالرئيس أمين الجميل يدخل ومعه “القوات اللبنانية” معركة حياة أو موت لمنع أي من هؤلاء الفرسان الثلاثة من الوصول إلى منصب رئاسة الجمهورية!
وهذا الحلف الاضطراري والمؤقت القائم بين كتائب الأمس وكتائب اليوم بصيغتها المنقحة، والمزيدة (“القوات”) يهدد بالويل والثبور إذا ما ذهب النواب يوم بعد غد الخميس إلى مجلسهم، وبعظائم الأمور إذا هم تمادوا في “التحدي” وانتخبوا أياً من المرشحين الثلاثة!!
وصحيح إن ذاكرة الناس، عموماً، ضعيفة، وإن الإنسان سمي إنساناً لأنه ينسى، ولكن لا يمكن طمس وقائع التاريخ بهذه البساطة، وتزييفها أو تزويرها بحيث تصير مناقضة لطبيعتها.
وإذا ما استثنينا ريمون اده الذي ما زال مرابطاً فيموقفه المبدئي، يتسلى بالتوكيد على موقفه المبدئي الذي لا نقاشه الناس في سلامته، فإن اللبنانيين لا يرون إن تغييرات حادة قد طرأت على مواقف الرئيس سليمان فرنجية بحيث جعلته يصوروكأنه عدو الامتيازات المارونية ومصدر الخطر على السيادة والاستقلال و”أمن المجتمع المسيحي”،
فالرجل ما زال يقول ما قاله في لوزان، وهو في أي حال ما كان يقوله قبل ذلك، والبعض يعتبر إن الخطأ كان في افتراض أن يكون موقف فرنجية غير ما كانه من مسائل الاصلاح السياسي و”الصيغة” أو الكوتا الطائفية.
أما بالنسبة للعماد ميشال عون فهو يحمّل من الاتهامات قدر ما حمّل سلفه إبراهيم طنوس، وربما أكثر: فهو قائد جبهة سوق الغرب، ثم قائد الجبهات على خطوط التماس جميعاً من بعد بالنيابة عن “القوات اللبنانية” والضامن لسلامتها واستمرار هيمنتها والتفرغ لممارسة سلطتها في مناطق تواجدها.
ثم إنه القائد الذي سكت عن اغتيال رفيق سلاحه وحياته وذراعه اليمنى العقيد خليل كنعان، في ظروف معلومة ومواصفة وعلى يد جهة لم تنكر يوماً أقدامها على هذه الجريمة.
وهو القائد الذي خيب آمال اللبنانيين جميعاً حين عجز عن التصرف، ولو بالحد الأدنى المقبول، في مواجهة جريمة أشد هولاً، وأفظع بشاعة وتأثيراً على سلامة الوحدة الوطنية، هي جريمة اغتيال رمز الشرعية وحامي حمى الجيش الرئيسي الشهيد رشيد كرامي.
هذا إذا لم تسرد وقائع أقل أهمية ولكنها مسيئة إلى صورة ميشال عون، كقائد للجيش، كمثل تصرفه بعد حادثة الطائرة المروحية، أو بعد منع تنفيذ قراره الامساك بالأمن في المنطقة الشرقية من بيروت.
ماذا يعني “الفيتو” الكتائبي؟!
إن خطورته تتجاوز أشخاص المرشحين الموجه ضدهم،
فسليمان فرنجية هو هو قبل الفيتو وبعده، لا هو تغير أو تبدل قبله ولا هو سيتغير أو يتبدل بعده، له مواقفه المعلنة والمعروفة من مختلف المسائل المطروحة في البلاد، وله تحالفاته وخصوماته التي لا يلغيها الوعد بالعفو عما مضى،
وميشال عون ما زال في موقعه الذي ناله مكافأة له على مواقفه، فلا هو دخل بعد 1984 الحزب الشيوعي ولا هو انتسب إلى “المرابطون”.
… فإذا ما أضيف إلى “الفيتو” التهديد بتعطيل جلسة الانتخاب، ولو بالقوة، صار بالإمكان الاستنتاج إن الهدف هو منع انتخاب رئيس جديد، أي رئيس جديد. لهذه الجمهورية السعيدة.
أي إن الهدف هو حماية “الانقلاب الكتائبي” الذي تم قبل
وهذا المنطق الأعوج يتناسى ما وقع من تطورات خطيرة في لبنان وفي المنطقة من حوله عبر السنوات الست الماضية،
فلا لبنان اليوم محاصر ومقهور الإرادة ومشلول عن الفعل بنتيجة الغزو الإسرائيلي، ولم يعد بإمكان الجنرال شارون، أن يتنزه في حديقة القصرالجمهوري، أو أن يرعى معرضاً للمنتجات الإسرائيلية في بكفيا.
ولا شعب فلسطين اليوم هائم على وجهه في بواخر تمخر به عرض البحر بحثاً عن مرفأ غير المرفأ الطبيعي الذي كان بديهياً أن تتوجه به قيادته إليه.
إن شعب فلسطين، يشن عبر انتفاضته المجيدة، أخطرهجوم تعرض له الكيان الصيهوني منذ إقامته على أرض فلسطين قبل أربعين سنة. وهو قد حقق خلال الشهور التسعة نصراً مؤزراً أثارإعجاب العالم وتعاطفه واعترافه بعدالة قضيته وكفاحه في حين يستمر التراجع الإسرائيلي، برغم محدودية الدعم العربي وبرغم المساومات وعروض الانحراف التي تتبرع بها بعض قيادات الفلسطينيين في الخارج.
أما سوريا فأقوى بما لا يقاس مما كانت عليه عشية الغزو الإسرائيلي، وجيشها قد عاد إلى بيروت ومعظم أنحاء لبنان، في حين اضطر الإسرائيليون إلى الانسحاب من معظم الأراضي التي احتلوها بغزوهم، والتوقع أن يكملوا انسحابهم ليحفظوا بالسياسة ما عجزوا عن حمايته بنيرانهم الغزيرة.
أليس لهذه التحولات الخطيرة من نتائج؟
إن “الانقلاب الكتائبي” إذ يدرك خطورة هذه التحولات يحاول بهجومه الوقائي أن ينقذ ما يمكن إنقاذه من مواقع سيطرته.
وهو إذ يتكئ على الموقف الأميركي المساند له بحجة منع سوريا من تحقيق انتصار سياسي كبير في لبنان، يفرض جواً إرهابياً على الانتخابات الرئاسية بحيث يمنع أن تكون نقطة تحول تصلح لأن تكون مدخلاً شرعياً على عهد جديد.
إن الفيتو الكتائبي موجه ضد المرشحين جميعاً، وليس ضد اثنين أو ثلاثة، من لا يخضع لمنطقه سيشطب، كائناً من كان، فإذا لم يخضع المعنيون شطبت الانتخابات ذاتها.
بل إن فيتو الانقلاب الكتائبي موجه ضد اللبنانيين جميعاً، فإذا هم كابروا حرموا من فرصة الخروج من أتون الحرب الأهلية، وأجبروا على البقاء رهائن وضحايا لهذه الحرب. في حين يهجرالعالم كله – بشرقه وغربه – عصرالحروب ويستشرف أفق سلام كوني مديد.
إن “الفيتو” يخرج لبنان من العصر الجديد حتى من قبل أن يدخله!
… وهذا فوق ما يستحقه وما يمكن أن يتحمله اللبنانيون، فكيف تراهم سيتصرفون؟!
لننتظر.. فإن “الخميس” لناظره قريب!