لأسباب تتصل بطبيعة السلطة والقوى السياسية في لبنان، نجحت “الجبهة اللبنانية” في تعطيل العمل السياسي، وحاصرت بتصعيدها العسكري الجميع في خانة رد الفعل وهي – بالضرورة – عصبية وانفعالية وضيقة الأفق.
ثم إن “الجبهة اللبنانية” حاولت إخفاء جريمتها في تعريض أحياء ومناطق من بيروت وضواحيها، وراء المآسي الإنسانية المروعة التي حلت بالمواطنين هناك وبممتلكاتهم… وهكذا برزت، على الصعيد العالمي، صورة الضحية وغابت أداة الجريمة وأسماء المنفذين، خصوصاً وقد استخدم السلاح الطائفي كعنصر فاعل – غربياً – في تمويه الحقائق بل وقلبها، فصار الرد على استفزاز الميليشيات إبادة للمسيحيين وقضاء على الجيب الحضاري في الصحراء العربية.
وبالتأكيد فليس في العالم كله من يعاني كما نعاني، ومن يتألم كما نتألم لهذا الذي يحدث لأهلنا وأخوتنا وأبناء عمومتنا في شرق بيروت وبعض نواحي المتن.
منا هؤلاء الأبرياء الذين يسقطون قتلى أو جرحى ويعز عليهم التداوي.
ومنا هؤلاء الذين يقاسون النقص في المؤونة أو في الماء، ويحتجزهم القصف في الملاجئ أو في مداخل بيوتهم بغير هاتف وبغير نور وبغير من يؤنسهم فيطرد الوحشة من نفوسهم والرعب من القلوب الواجفة.
ولسنا في وضع أفضل على كل حال، فالبؤس “اشتراكي” بعكس النعمة والغنى ورفاه الحياة، والوطن أصغر من أن يتسع لأخوين أحدهما يكتوي بنار الجحيم والآخر يستمتع بالتفرج عليه – من برج عاجي في السماء السابعة – ويشمت به!
لكن هذا كله لا ينسينا حقائق أخرى أساسية لأنها سياسية، ومنها:
1 – إن “الجبهة اللبنانية” ليست مسؤولة فقط عن هؤلاء الأبرياء الذين سقطوا ويسقطون في بيروت الشرقية وضواحيها، بل هي مسؤولة عن قتل لبنان ذاته، فماذا يتبقى من لبنان إذا صور للعالم أن مسيحييه مختلفون مع مسلميه، وإن الميليشيات الطائفية تجرهم بالقوة إلى تحالف مفروض مع العدو الإسرائيلي ضد أبناء وطنهم وضد السوريين والفلسطينيين، وسائر العرب.
وبالتأكيد فليس شرفاً للبنان ولا دليلاً على “حضارته” أن تحكمه أو تتحكم به الميليشيات الطائفية.
2 – إن “الجبهة اللبنانية” لا تتسبب فقط في عزل المناطق التي تهيمن عليها عن سائر أنحاء لبنان، بل هي تحاول أن تفرض على لبنان كله عزلة رهيبة وأن تجعله جزيرة من الأحقاد والغرائز والكراهية وأبشع أنواع التعصب.
وأي مستقبل تمنينا به هذه “الجبهة” التي لا تضم غير دكتاتور معزول وحزب فاشي، والتي لم يستطع أن يبقى فيها زعيم ماروني عريق مثل سليمان فرنجية، والتي يرفض أن يمد اليد إليها زعيم مسلم لم يتهم مرة بالتقدمية أو بالتطرف أو بنقص “الولاء” مثل صائب سلام؟!
3 – إن “الجبهة اللبنانية” هي التي عطلت ولا تزال تعطل الحوار الوطني الذي يمكن عبره وحده بناء لبنان الجديد.
هي التي حاصرت رئيس الجمهورية، سياسياً ونفسياً ثم أمنياً، بحيث عطلت اتصاله بأي طرف آخر الاها، وأبطلت دوره كرئيس لكل لبنان، مسؤول عن أرضه كلها وعن مواطنيه جميعاً.
وهي التي شلت عمل الحكومة القائمة، ومنعت قيام حكومة جديدة.
هي التي أنهت دور المجلس النيابي.
هي التي نسفت احتمالات بناء جيش وطني.
هذا على مستوى المؤسسات الشرعية.
أما على المستوى الوطني العام فهي التي فرضت على اللبنانيين لغة السلاح والقتل على الهوية والإرهاب الفكري، فاعتبرت كل مختلف في الرأي معها خائناً ومرتزقاً ومتعاوناً مع “العدو” العربي، أما في مناطق هيمنتها فالمختلف مارق ومرتد ولا يستحق نعمة الحياة في جنات نعيمها!
وهكذا صار سعد حداد وسامي الشدياق هما النموذج المطلوب للمواطن في “لبنان الحر”، وطبيعي في هذه الحالة أن تخسر الأكثرية الساحقة من المواطنين حقها في ادعاء الانتماء إلى لبنان الأخضر!
أما قيم لبنان “القديم” من الديمقراطية إلى الأمن والطمأنينة والاستقرار والمحبة وإرادة الحياة المشتركة والتسامح الديني، فقد قضت عليها الميليشيات لتبقى هي ولتفرض قيمها “الجديدة” بالقوة “المعنوية” و”الفكرية” لدبابات “السوبر شيرمان” الإسرائيلية!
4 – وأخيراً فإن “الجبهة اللبنانية” هي التي طرحت لبنان في سوق المزايدات والمناقصات العالمية محطمة آخر ما تبقى من رموز السيادة والاستقلال الوطني… كأنما الحل يمكن استيراده من الخارج مثل البرادات والغسالات وأجهزة الفيديو!
وهي تقفز من فوق حقائق الحياة (وليس العصر فحسب) طالبة ممن لا يملك ولا يقدر، أن يؤمنها ضد واقع بلادها الجغرافي والتاريخي والثقافي والاقتصادي والإنساني عموماً، بل وأساساً ضد طموحات شعبها وحقه في غد أفضل ينسجم مع انتمائه الأصيل إلى أمته العربيةز
إن التدويل مشكلة وليس حلاًز
وإذا كنا لا نستطيع أن نترك لأبنائنا ولحفدتنا وطناً بلا مشاكل، فلا أقل من أن نمنع “الجبهة اللبنانية” وميليشياتها من أن تفرض عليهم الحياة في بلد خرب معاد لنفسه ولبني قومه وقابل للتفجر والانتحار في كل لحظة.
الوطن أو الميليشيات الطائفية: هذا هو الخيار المطروح.
وقد ينفع التدويل في إلغاء الوطن، لكنه لن ينجح بالتأكيد في فرض حكم الميليشيات والدويلات الطائفية والعنصرية قدراً على اللبنانيين وسائر العرب.
وسنظل دائماً مع الوطن: الوطن الواحد الموحد المساوي بين أبنائه جميعاً والمفرق بين عدوه والأشقاء، وبين سلاح القضية والسلاح القاتل للشعب والقضية والوطن بحاضره وغده المنشود والمرتجى!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان