“أكتب إلى جلالتكم في الفترة الفاصلة بين قذيفتين إسرائيليتين، أولاهما أحرقت الشجر والزرع، أمام عيني وعجزي، والثانية فتحت ثغرة في سقف البيت وقلبي، ولعلني أستطيع إكمال هذه الرسالة إليكم قبل القذيفة الثالثة، بعونه تعالى، ولا معين غيره، وقد أكرم بعض أهلي فسبقوني بالشهادة إليه.
سمعت من إذاعة أجنبية، إذ إن وسائل إعلامنا المحلية المسموعة والمرئي ممنوعة من تعاطي السياسة، وربما من باب الاستعداد لما أنتم بصدده، أنكم استدعيتم على عجل إلى واشنطن لتلتقوا في البيت الأبيض، وكما ياسر عرفات من قبلكم، رئيس حكومة “العدو” إسحق رابين،
ولست أسألكم، فالملوك لا يُسألون، ولكنني رأيت أن أعد لكم هدية تليق بسامي مقامكم قد تنفعكم في مهمتكم المقدسة التي حددوا لكم موعدها في الخامس والعشرين من تموز الجاري.
“الهدية” ليست إلا قبضة من تراب هذا الجبل العاملي، لكنها تختزن وتختزل أجيالاً وأعماراً، قضية وثواراً وشهداء، دماء مجاهدين ودموع أرامل وأيتام ولاجئين وثكالى وأيامى، ورائحة البارود والياسمين المحروق والعطر الباقي لزهر الليمون بعدما يبست لاأشجار ذات الربيعين.
فمن فوق هذه الأرض كانوا وما زالوا ينطلقون نحو أولى القبلتين، ونحن لهم الدليل والحادي ورفيق السلاح والمفتدي. ألسنا المرابطين في الثغور وحماة الديار والذائدين عن حقنا في أرضنا؟! لم نفعل غير ما تعودناه منذ أيام الفتح وعبر المواجهات شبه المتواصلة لجحافل الغزاة بدءاً بالمغول مروراً بالصليبيين وانتهاء بالصهاينة… فمن هنا كانت الطريق إلى حطين، وفوق هضابنا، المحرّر منها والمحتل الآن، انتصبت الحصون، وعليها ارتفعت المشاعل والهتاف المبارك “الله أكبر” لبدء معركة التحرير.
وكما عبّر التاريخ، الذي تعرفه جيداً جلالتك، اختلطت دماؤنا (نحن الذين غدونا الآن لبنانيين) بدماء السوري والفلسطيني والمصري والمغربي واليمني والعراقي وكذلك بدماء المجاهدين القادمين بقصد الشهادة من فارس و”في ما وراء النهر” التي باتت تعرف الآن بأفغانستان والباكستان والهند وأواسط آسيا وهضاب الأناضول.
أترى كم هي غالية “الهدية”، ومن قبل: هذه الأرض التي ائتمنا عليها وعلى من أعطوها شبابهم، دماءهم وأحلامهم وبهجة الحياة؟!
إننا ها هنا باقون، يا صاحب الجلالة، لن نرحل إلا إلى داخل التراب. ولسنا مدعوين إلى واشنطن التي باتت الحديقة الخلفية لتل أبيب، وبات سيدها أشبه بمدير المراسم (التي ستصبح الآن ملكية) في ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي.
ولن نسألك، كما لم نسأل ياسر عرفات من قبلك: ماذا فعلت بأخيك؟!
للملوك دينهم ولي دين.
فنحن لا نفرّط، من باب النكاية بالذين سبقوا إلى التفريط، ولا نستسلم بذريعة أن لا يسبقنا الآخرون إلى الاستسلام، ذلك أننا مرتاحون من هم العرش والتاج وأعباء الحكم والقيادة.
نحن ملح الأرض، نحن ترابها ووردها والتين والزيتون والتفاح والرمان. نحن القدس الشريف والمدن جميعاً والقرى والمزارع والدساكر جميعاً. نحن وادي عربه وسائر البقعة التي تبررون التوقيع بحرصكم على استعادتها لتوكيد الحدود الدولية بين مملكتهم ومملكة “أحفاد داود” البولونيين والتشيكيين والروس والفلااشا وسائر المستقدمين لينتزعوا منا أرضنا والمياه والموارد جميعاً، وغالباً بنار السلاح الأميركي الفتاك الذي لم ييسر لكم أبداً برغم عميق صداقتكم مع الرؤساء المتعاقبين خلال ولايتكم الطويلة على البيت الأبيض.
لم نقاتل في السابق من أجل أحد، إلا الله والأرض وإنسانها، لم نقاتل من أجل ملك أو مجد أو جاه. فرض علينا القتال فقاتلنا. وكنا “ممثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة”. المجد للشهداء الذين لا يموتون. وسنظل صامدين هنا، نحرس شهداءنا في أرضنا والشجر والثمر والشرف والعروبة والدين والأنبياء. سنظل لأننا نريد ولأننا لسنا ملوكاً.
لن نخرج من العرب ولن نخرج عليهم. نحن العرب وثورتهم، مجد حاضرهم وعنوان حقهم في مستقبلهم. والأمر يتقرر، أخيراً، هنا، لا في واشنطن، ويقرره بسطاء الناس الذين أعطوا الأرض أعمارهم فأعطتهم أسماءهم والملامح وشرف الانتساب إلى أمة عريقة لا تزول بإرادات ملكية.
والسلام على من أتبع الهدى.
“مواطن عربي من جبل عامل.
جنوب لبنان
جنوب غرب الجولان السوري
شمال شرق القدس الشريف.
استدراك: لم ألحق بهذه المناطق توصيف “المحتل”، حتى لا أخدش المسامع الملكية بما قد يفسر بأنه تذكير سمج بأن أوان الصلح أو التوقيع أو التطبيع أو حتى السلام لم يحن بعد.
استدراك ثان: رحم الله أبا جدك، الشريف حسين، الذين أطلق الرصاصة الأولى للثورة العربية الكبرى، وتكاد الآن تندثر بعدما نخرها الرصاص المضاد.
استدراك ثالث: لعل جلالتك تتنبه إلى ما غفل عنه عرفات، فلا تترك للإسرائيليين حق التحكم بالمعابر وتحديد من يدخل إلى المملكة ومن يخرج منها، فيمنعون بعض أهل بيتك أو بعض معاونيك، ذلك لا يليق بالملوك.
استدراك أخير: حمى الله شعب الأردن.
طبق الأصل”
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان