من قلب الأرض انبجسوا كما الينابيع. كانوا فيها. أبداً لم يغادروها. انطووا على أنفسهم وكمنوا في ذرات التراب. تهاطلت الصواريخ والقذائف فأحرقت الحجر والشجر والطير والهواء، لكنهم كانوا في حصن حصين، لا ملاجئ “رسمية” ولا تحصينات و”حماة الديار” لم يجيئوا بعد… لكن بينهم وبين التراب صلة رحم، يحفظهم ويحفظونه. ولقد انبثقوا كما النمل، من ذرات التراب اليوم وقد عفرتهم فأعطتهم لونها ومنحوها أسماءهم.
“يا جبل عامل يا غل الشجر… يا جبل عامل يا شرف البشر”
وجبل عامل يقول: ها أنذا، كما تعوّد دائماً أن يفعل هو باق بأهله ولأهله “والآخرون” عابرون. يرمونه بالنار فلا يحترق، يعملون فيه السيوف فتغطي الجراح جسده ويستعصي على التقطيع والتشطير والانفصالية والتقسيم. لا “هم” يقدرون على “أخذه”، حتى إذا احتلوا بعض مساحته، ولا هو يقبلهم فيه، إلا من ذات في ترابه فاستحق الحياة الثانية.
المواكب تترى يتقدمها الحزن والأسى لهول الجريمة. لكن الأرض تحتضن أهلها فتمسح دموعهم وتستظهر أحلامهم فيتماسكون…
ليست المواكب جديدة على جبل عامل. أهله موكب متحرك دائم. في الحزن كما في الفرح، في ذروة النشوة بالنسر كما في زخم الانتفاض لاستخلاص الحق المضيع يجيء إليه أبناؤه جميعاً. يجيئون ليكونوا فيه، يجيئون ليصيروا أقوى. فهو القائد وهو القيادة. هو الشهيد وهو الشهادة. له أهزوجة النصر، وله الغناء والحداء، ومنه الشعر والنثر، فالداخل إلى باطن مولود والخارج منه عائد لا محالة حتى لو بلغ أقصى القطب. وناظم الرثاء يكاد يهنئ “الفقيد” بأنه قد استقر في ذاكرة التاريخ ولم يسقط هباء، وبأنه قد ذاب في التراب الذي لا يكف عن توليد الرجال وتجديد الحياة.
المواكب تترى، والذين فيها ليسوا “عائدين”… لقد كانوا في مهمة فأنجزوها. كانوا فقط قد انتشروا في الأرض ليمدوا الجنوب إلى كل لبنان، إلى كل بلاد العرب، إلى كل الدنيا… ولقد رفعوه راية للصمود. وجعلوه عنواناً لإرادة الإنسان الأقوى من الطيارة – الشبح والصاروخ الأسرع من الصوت.
وبلون التراب الراية، ولها عطر قداسته، ولها شميم عراره المضمخ بالنجيع!
لكأنما ازداد هؤلاء الجنوبيون عدداً!
لكأنهم غدوا الأمة جميعاً. أليسوا رمز مستقبلها ونصرها الموعود؟!
بهم يبدأ التاريخ الثاني. لا تاريخ خارج الأرض، والأرض بأهلها.
تكفي خطيئة واحدة: الخروج من الأرض خروج من التاريخ. لا أرض بلا البشر. لا شعب بلا أرضه. الارض هي سيف المقاومة وترسها. المقاومة هي أن تبقى في الارض، فإن أنت خرجت منها فلن تدخل التاريخ بل سيبقى التاريخ مع ترابها وفيه.
وحشية القوة هي إسرائيل: 1150 غارة جوية، و30 ألف قذيفة، والشهداء عشرة آلاف بين المنازل ومائة وثلاثون بين أصحابها. والجرحى بين المنازل عشرون ألفاً وبين أطفالها ونسائها والشيوخ نحو خمسمائة.
“سجل، أنا عربي، ورقم بطاقتي حاصل جمع عشرة آلاف ومائة وثلاثين شهيداً مع عشرين ألفاً وخمسماية جريح مع ألف ومائة وخمسين غارة، مع ثلاثين ألف قذيفة، مع سبعة أيام بلياليها من مساكنة الموت والتوغل فيه حتى استنفاده…”
سجل… إن جبل عامل قد هزم الذي لا يهزم!
سجل… إن الفلاح الفقير القاسي الملامح، الخشنة كفه، الرقية مشاعره، الوادعة عيونه والصلبة إرادته، قد انتصر على أقوى آلة قتل جماعية في هذه المعمورة،
بلا دولة، ومن دون الدول جميعاً، قد انتصر!
الدولة تجيء متأخرة دائماً، تحصي الأضرار وتعزي بالضحايا، ويختلف موظفوها عند تناهب المساعدات!
لا يهم. هو أبداً لم يعرف الدولة، ولذا فليست لديه عادة انتظارها!
ربما لأنه من دون دولة أمكنه أن ينتصر. ربما لأنه واجه بلحمه الحي وبدمه القاني، ببيته غير المحصن، بأطفاله وزوجته ووالديه وأرضه التي أعطته معنى وجوده، أمكنه اختراق المستحيل وتجاوز الهزيمة!
في جبل عامل ولد الإنسان العربي القادر على الانتصار.
في جبل عامل، وبغير ادعاءات وخطب رنانة، لحقت الهزيمة بالمشروع الإمبراطوري الإسرائيلي.
لكأنما الإنسان العربي يكون خارج الدولة، أية دولة، أقوى منه داخلها… وهما قمعته يبقى أقوى منها، حيث يتوجب إثبات القوة.
ويمكن لإسحق رابين وشمعون بيريز ويهودا باراك أن يحصوا الآن مغانمهم، وأن يتباهوا بما حققته آلة قتلهم الجهنمية من منجزات.
لكن منظر هؤلاء الذين انبثقوا من قلب الأرض فملأوا الأرض واستقروا فيها وسيبقون لا بد أن يجبرهم على تعديل الخطط، ولا بد أن يصيبهم بشيء من الخيبة واليأس.
فهؤلاء هو المستحيل. تماماً كما أن إسرايئل بالنسبة إليهم هي المستحيل.
… وليس الاجتياح الإسرائيلي هو من يدجن هؤلاء المقاومين بالفطرة، وبغير سلاح إلا الإرادة والتوحد مع تراب أرضهم، إن سلاطينهم أقسى عليهم من الجلاد الإسرائيلي ، هم يدجنونهم ليمكنهم، من بعد، أن يجلسوا إلى العدو يفاوضونه على بقائهم فوق عروشهم فيعطونه لكي يمد في أعمارهم حتى لو أخذ منهم ما لا يملكون أن يتنازلوا عنه: الأرض!
… وغداً يجيء وارن كريستوفر من أجل صياغة الهزيمة “العسكرية” في إخراج “سياسي” مقوبل،
لكنه لن يذهب إلى الجنوب، ولن يشم رائحة أرضه، ولن يصافح الأكف المشققة لزراع التبغ والكرمة والزيتون والليمون فيه، ولذا لن يستطيع إنقاذ “مسيرة السلام”!
سيلتقي الملوك والوزراء والخبراء والجنرالات وسائر الذين لا يعرفون.
لكن جبل عامل سيكون خارج المباحثات.
فجبل عامل يجول الآن في هذا المدى العربي الواسع: ينثر دمه وتجربته الناصعة على الجميع، يدلهم على طريق الخلاص، ويهدي أبناء المستقبل قبضة من ترابه لتنيرطريقهم.
الإنسان هو الأصل، الإنسان هو البداية والنهاية. لا نصر من دونه، وستظل الهزيمة تستوطننا طالما غيبناه، هو الباني ومجدد البناء بعد الهدم، هو مصدر الحياة ومجددها كلما طغى الموت الإسرائيلي فاستأصل الشجر والبشر والحجر.
الإنسان أقوى من الدولة. منه تأخذ الدولة قوتها وبه ومن أجله تقوم… أما إذا ألغته لكي تقوم فسيكون بإمكان الإسرائيلي أن يشطبها في أية لحظة، وفي كل لحظة.
… ويا جبل عامل: بك ومنك يثبدأ تاريخنا الجديد. وها هذه فلسطين تسير على خطاك، وستجيء من بعدها مصر وسائر المقهورين بالاحتلال الإسرائيلي تحت الرعاية الأميركية.
إليك العودة ومنك المنطلق، وأنت القائد وأنت القيادة.
وها ريح الجنوب تنقل عطره إلى أربع رياح الأرض العربية.
وعزاؤنا في أن دم شهدائه سيكون لبنة المستقبل في لبنان الموحد وأمته المستعيدة تضامنها.