لبنان ينعي جمهوريته،
الجمهورية تنعي شعبها،
الشعب ينعي الدولة ومؤسساتها التي تندثر فتختفي واحدة أثر الأخرى،
.. واليوم، هو اليوم الخامس والثلاثون بعد المائتين على لبنان من دون رئيس الجمهورية.
.. وهو اليوم الأربعون بعد السبعمائة للبنان من دون رئيس حكومة أصيل، ولعله اليوم الألف للبنان من دون حكومة، خصوصاً إذا ما تذكرنا أن “حكومة الوحدة الوطنية” قد اسىتشهدت قبل رئيسها الراحل الكبير رشيد كرامي ببضعة شهور،
.. وهو اليوم الأول للبنان البلاد جمهورية من دون مفتي الجمهورية، وأحد معالمها ورموز استمرارها الشهيد الشيخ حسن خالد،
فعصر أمس دفن بعض لبنان الباقي بعضاً منه، وعاد المشيعون من موكب البكاء المكتوم والبلاد دموع وقد تركوا مفتي السبعينات والثمانينات في عهدة قدوتهم الإمام عبد الرحمن الأوزاعي، جنباً إلى جنب مع زعيمهم في الأربعينات رياض الصلح،
ومن المفارقات الملفتة، أن يكون قد قتل كليهما الإيمان بالكيان اللبناني والاخلاص لنظامه الفريد، ومع ذلك لم يشفع موت القيادة في تحسين شروط حياة الرعية، واستمرت “الطائفة العظمى” تقدم امتيازاتها على الوطن وتتمسك بهيمنتها حتى لو كلف ذلك خسارة الدولة والشعب والمؤسسات.
ليس هو الحزن. إنه أمر أمض من الحزن وأقسى.
فبيروت، أميرة الحزن العربية، شيعت “فقيد لبنان الواحد” “فقيد المسلمين والعرب” مشاعر تتجاوز الحزن متخذة ملامح القلق الوحشي على المصير.
كانت مدينة بلا رأس، يوم أمس، ولولا الهتاف السحري “الله أكبر” لما استعادت توازنها..
لكنها بعد العودة من الضريح وجمت كأنها هي التي أغلق عليها الضريح.
كانت الأسئلة والتساؤلات أكثف حضوراً من الحزن، وكانت الحيرة القاتلة أعظم أثراً من الإحساس بالفجيعة، وهي كانت تجوب الصدر من أقصاه إلى أقصاه فينفتح لها كصحراء بلا حدود.
الجرح شخصي والفجيعة عامة،
القلق عام والخوف شخصي يسكن الشرايين والأوردة والنبض،
بيروت بلا حزب، بلا قيادة، بلا مرجعية، تلتفت إلى سليم الحص فتشفق عليه من مطلبها وتضن به أن يتحمل المزيد، هو المثقل أصلاً بما يحمل ويحمّل، وهو الذي تركبه وحدته وافتقاد المؤازر وشريك الهم.
بيروت تكاد أن تكون بلا صاحب. وحين تدفق الموج البشري في شوارعها أمس، كان كمن يؤكد وجوده وقدرته على الفعل. كان كمن يؤكد إن مدينته ليست أرضاً مشاعاً يتناهبها أصحاب السلاح ويحتلون شارعها ويقتحمون أبواب بيوتها (وقلوب أهلها وسكانها) الموصدة دونهم.
أخرج الحزن بيروت، أمس، من شرنقة القمع فقالت إن لا أمر يمكن أن يقرر من دونها أو برغم إرادتها أو على حساب كرامتها المستباحة!
.. ولقد بلسم جراح بيروت، وهدأ من روعها، إن التقى شمل الناس جميعأً في حمى حزنها.
وقال لسان حالها وهي تتأمل الحشد وتستمع إلى برقيات التعازي وقصائد الرثاء: لو إن هؤلاء تلاقوا من قبل لما تجرأ علي “الشبيحة” باسم الطوائف أو باسم المذاهب أو باسم “الشرعية” المغتصبة والمأخوذة رهينة في الملجأ الجمهوري في بعبدا.
ولقد تأثرت بيروت لبادرة البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير في فتح أبواب بكركي للمعزين، وقدرت له أعظم التقدير جلوسه مجلس أهل الفقيد يتقبل العزاء.
لكن بيروت تمنت لو إن غبطته كان أشجع في المبادرة بالموقف، أو لو إنه كان أشجع في مواجهة حقائق الحياة، إذن لكان حمى صديقه ورفيقه المفتي حسن خالد واستبقاه شريكاً صالحاً ومساهماً بارزاً في صنع عصر السلام وإنهاء عصر الحرب التي لا تنتهي.
لو إن غبطته بادل سماحته اعتدالاً باعتدال، وتنازلاً عن “الامتيازات” بتسامح في بعض مطالب الاصلاح،
لو إنهما قاوما معاً المتطرفين، معاً هنا ومعاً هناتك،
لو إن غبطته تلقى اليد الممدودة ليستعين بها على التقسيميين والمنتفعين بالحرب، إذن لكان ضغطهما معاً – ومعهما القوى الخيرة في لبنان وبين العرب – في اتجاه الوفاق الوطني قد أجدى،
فلا شيء يقتل الاعتدال قدر أن يجبه بالتعنت والتمسك بما يقسم الناس بين “ممتازين” وبين رعايا هم أقرب إلى مرتبة العبيد والأقنان.
وحده الموت، وحتى إشعار آخر، يستحضر بيروت الغائبة والمغيبة والساقطة أو المسقطة من الذاكرة السياسية سهواً أو عمداً، لا فرق، طالما لم يفتح باب البحث الجدي في الحل العتيد.
الباحث عن دور “يحتل” من بيروت ما يدخله في قائمة “الفاعليات” و”الأطراف المعنيين”،
أي إنه يلغي منها ما يكفل له التواجد على حسابها، لكأنه يفترض سلفاً إنه لا يكون بها وعبرها لأنه لا يعتبر نفسه منها وفيها.
والطامح إلى رئاسة “يضرب” بيروت، يؤدبها حياً حياً، شارعاً شارعاًن بناية بناية، كما فعل بداية أمين الجميل، ثم من بعده وعلى خطاه وإن بضراوة أشرس جنرال الموت ميشال عون،
أي إنه يزرع فيها الموت لتكتب له الحياة، ولو على جثتها،
وميشال عون “وعد” بيروت بالموت المطلق ، بالفناء والاندثار، ليس لأنه يعترض على النمط المعماري العشوائي السائد فيها، ولكن لأنه يفترض إنها تعترض طريق هيمنته على لبنان قائده الراحل بشير الجميل.
وحده الموت، وحتى إشعار آخر، يستحضر بيروت المقموعة بالتمزيق المتعمد، المقهورة بالتفتيت الذي حولها إلى مجموعة من القرى والدساكر المتناثرة على الشاطئ اللبناني للبحر الأبيض المتوسط، تكاد تفتقد الرابط بعدما ضربت جميع الروابط في ما بينها بما في ذلك الرابط الجغرافي.
صار البحر حدوداً للعداوة ومعبراً لأسلحة الدمار، دمار المدينة،
وصارت “المعابر” نقاط “جمارك” لمصالح المنتفعين بالانفصال، لا تفتح إلا بالدولار، تقفل في وجه العامة والطحين والنفط والغاز، وتفتح “بالطلب” في وجه الخاصة التي “تأخذ وتعطي”.. وسبحان العاطي الوهاب!
“الشرقية” عند قاعدة المدفع و”الغربية” عند فوهته وما بينهما خط نار،
و”الضاحية” تكاد أن تكون نهاية العالم، لها همومها المختلفة وتضاريسها المتمايزة، وخطوط التماس خنادق من حولها وخنادق في قلبها تقتحم أحياناً بيوتها وأكواخ الصفيح فتوزعها جبهات مقتتلة على كل شيء وعلى أي شيء في المسافة الفاصلة بين أسفل سافلين في الأرض واعلى عليين في السماء!
وحده الموت، وحتى إشعار آخر، يستحضر بيروت،
وبيروت مضيعة ومستباحة ومهدورة الدم. تلغيها حين تعرّفها بالجهات، “شرقية” أو “غربية”، أو بالضاحية والشطان التي كانت مرابع ومهاجع فصارت تسميات لمواقع ومواجع أو خريطة للفواجع.
بيروت تكاد أن تكون اللامكان، هي التي كانت ملخص الدنيا والعنوان المختصر للأمكنة جميعاً.
بيروت، ومعها لبنان، تكاد أن تصبح جغرافيا للطوائف والمذاهب، ومواطن الميليشيات والعصابات الفاشية وقطاع الطرق، تكاد كل جهة تعرف باسم زعيم المافيا فيها، المتلطي وراء المذهب المدججة ميلشياته بسلاح التقسيم وتقاسم قوت الناس.
هذا بينما يوزع لبنان جراحه وجرحاه على العالم، وتلتهم الطوائف شهداءه فلا تكاد تبقي لتاريخه أحداً منهم.
الوحدة في الحزن، الوحدة بالحزن، الحضور بالحزن وعبره.
الوطن في مأتم مفتوح، والجامعة العربية تهرول – لا يعوقها إلا الدعم الدولي – لتحاول وقف النار هنا، أو لتقدم العزاء في فقيد كبير هناك،
من يبتدع الحل إذن؟!
من يصنع وحدة الفرح، الوحدة في الفرح، الوحدة بالفرح، الحضور بالفرح وعبره؟
ليست القمة بأي حال،
فقمم ما بعد حرب تشرين لا تعطي إلا المزيد من أسباب الحزن على الماضي والحاضر والمستقبل.
برغم كل شيء فبيروت صامدة.
تسامت على جرحها الجديد كما تسامت على الجراح السابقة وقالت من جديد لن نركع ولن نرفع الأعلام البيضاء.
ومن جاء بالحرب بالحرب يذهب،
وتبقى بيروت، ويبقى لبنان وفياً لأمته مدافعاً عن عزتها حافظاً لكرامتها مقاتلاً من أجل غدها الأفضل الآتي برغم كل الأحزان والمصاعب .. أو ربما بفضلها.
وبيروت، حتى بغياب مفتيها الكبير، لن تقول أبداً، “لا أدري”، بل هي تدري، وتدرك وتعرف طريقها ولن تبدل لغتها أو اسمها أو نهجها أو تاريخها حتى لو فجروا كل بيت وكل حجر فيها.
وبين مناراتها الهادية إلى هذا الطريق سيكون بعد اليوم دم مفتيها وشهيدها العظيم حسن خالد.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان