لم يعد “القرار الوطني المستقل” بدعة أو شعاراً بحت فلسطيني.
إنه يكاد يكون القاعدة – الشرط التي سيرتكز عليها “مؤتمرالسلام” العتيد لتسوية ما يسمى “أزمة الشرق الأوسط”.
فالقرار العربي الموحد مرفوض سلفاً، من الأميركيين كما من الإسرائيليين، إضافة إلى كونه متعذراً عملياً، فالعرب شعوب وقبائل شتى بينها خنادق من دم أو من التعارضات التي لا تفيد في حلها المجاملات أو الاعتصام بالصمت حتى لا يزيد الخرق، أو حتى تموه الحقيقة.
وحتى هذه اللحظة، يبدو صعباً تجميع “القرار المستقل” لكل طرف عربي، في منظومة من القرارات المتناسقة بحيث تكون إطاراً لموقف عربي مشترك، يراعي الخصوصيات والتمايزات والحساسيات وصولاً إلى الإرادات المستقلة.
وعلى سبيل المثال، ليس سراً أن موقف سوريا متمايز تماماً عن الموقف الأردني، ليس فقط بمنطلقاته بل بنتائجه العملية، فمن يفاوض على استعادة الأرض (أو حماية الحاضر والمستقبل) ليس كمن يفاوض على استمرار العرش وأسباب دوامه على الضفة الواحدة طالما تعذر مد ظلاله إلى الضفة الثانية.
كذلك فليس سراً أن الموقف المصري متمايز تماماً عن كل من المواقف الأردنية والفلسطينية ولعله أكثر تمايزاً في العمق عن الموقف السوري، واستطراداً اللبناني، وذلك لأسباب عملية تتصل بإرث السادات (كمب ديفيد) كما بظروف الرئيس مبارك وأسلوبه الشخصي.
بل إن قدراً من التمايز قائم بين الموقف اللبناني (الرسمي) والموقف السوري، أما بين اللبناني والفلسطيني فلا صلة ولا اتصال ليمكن تحديد مدى التمايز ، حتى لا يقال: التباين والتناقض.
الأسوأ والأدهى إن الموقف الفلسطيني ليس واحداً موحداً، حتى هذه الساعة، وإن المساعي التي تستهدف تجديد الوحدة الوطنية الفلسطينية عبر حوار مسؤول وجاد ومدرك لخطورة الظرف المصيري الذي تجتازه القضية، لم تنجح في تحقيق المرجو منها، وما زالت عرضة للضياع في مسلسل المناورات والتكتكات والأحقاد الصغيرة.
لكأنما يفضل ياسر عرفات أن يكون “قراره المستقل” مستقلاً بالفعل عن رفاق سلاحه في حركة فتح والفصائل الأخرى، سواء من ينضوي منهم داخل قيادته لمنظمة التحرير أم أبعده عنها الخلاف مع القيادة وسياساتها.
بالمقابل فقد وضع الإسرائيليين خلافاتهم السياسية الحادة جانباً، وتوافقوا “صقوراً” و”حمائم”، “حكومة” و”معارضة”، أحزاباً دينية وماركسيين واشتراكيين (؟!)، على “قرار وطني مستقل” يبطن الموافقة الشكلية بالرفض العملي، مع تحاشي الصدام مع الحليف الاستراتيجي (الأميركي) ومع أوروبا (والسوفيات)، ويمكنهم من إعادة الكرة مرة أخرى إلى الملعب العربي، ونسبة فشل المؤتمر (غداً) إلى ضياع العرب وخلافاتهم وعدم قدرتهم – مجتمعين ومنفردين – على اتخاذ الموقف المطلوب،
ولا تقتصر أضرار غياب التضامن العربي والوحدة الفلسطينية على إضاعة “الفرصة” التي يطلبها بعض العرب ويتمناها بعضهم الآخر ويسلم بها آخر الصامدين كشر لا بد منه، بل إن هذا الوضع قد يتسبب في تفاقم القطيعة بين الأطراف العربية وتجذير العداء – على المستوى الشعبي – بحيث يتعذرالتلاقي بينهم مجدداً،
ليس أسهل، مثلاً، من أن يتبدى للفلسطيني إن سائر العرب قد “خانوه” مرة أخرى، أو باعوا أرضه وتاريخه وحقوق أجياله الآتية،
وليس أسهل، بالمقابل، من أن ينسب العرب الفشل في الخروج من دوامة الحرب المستحيلة والسلام المستحيل، واستمرار أوضاعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية البائسة إلى “الفلسطيني” الذي “ورطهم” في الماضي في صراع لا طاقة لهم به و”باعهم” اليوم عند أول عرض أتاه على قارعة الطريق مشترياً دولته الكرتونية بدولهم، وجواز سفره بأحلامهم في الحرية والديمقراطية والسلام والعدل الاجتماعي.
إن كل مسؤول عربي يقول الآن بقراره الوطني المستقل،
وكل مسؤول عربي يقول الآن: إننا نرتضي للفلسطيني ما يرتضيه لنفسه،
والحريص بين العرب من يبرأ بنفسه من المسؤولية عما سيكون فيرفع صوته: قد بلغت، اللهم فاشهد! لقد حاولت ففشلت فتركت الأمر لغيري حتى لا أحاسب عليه!
والخوف – سياسياً – من أن يتلاحم قرار هذا العربي المستقل مع قرار ذاك العربي، المستقل، فيبدو وكأن الكل معنيون بأن يسقلوا فعلاً… عن العرب،
وفي حركة وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر ما يوحي بأنه يحاول توظيف كل قرار عربي مستقل ضد القرار العربي المستقل الآخر: يستعمل القرار السعودي المستقل (مثلاً!!) في مواجهة القرار الفلسطيني المستقل، والقرار المغربي المستقل (مثلاً!!) في مواجهة الموقف الليبي المستقل، وجملة القرارات العربية “المستقلة” للضغط على الموقف السوري القومي بالضرورة بحيث يضطره إلى التراجع والانكفاء والاعتصام بقرار سوري مستقل!
ولأن الموقف الفلسطيني هو الأضعف، إذ إن شرط استقلال قراره هو الإجماع العربي، أو تحصينه بالأكثرية العربية، فإن الضغط يشتد عليه باستثمارحالة الانقسام والضياع والتشتت العربي وسياسة “يا رب رأسي” لإجباره على التسليم بالشروط اللاغية لقضيته… مع تحميله المسؤولية عن الجريمة كونه ركب رأسه وأصر على “قراره الوطني المستقل”!
أي إن معظم الأنظمة العربية التي طالما زينت للفلسطيني حسنات قراره الوطني المستقل وأغرته على التشبث به (لاسيما حين كان الأمر يتعلق بسوريا)، تدفعه الآن إلى الشطط والتقدم إلى الهاوية بغير وداع إلا ذلك الشعار المقيت: إننا لا نريد أن نفرض على الفلسطينيين فهم أصحاب القضية، ونحن نرتضي لهم ما يرتضونه لأنفسهم و.. أهل مكة أدرى بشعابها!!
ومن أسف إن القيادة الفلسطينية، متذرعة بظروفها الصعبة، تتعامى عن هذه الحقيقة، وتتحدث مع البعيد والأبعد، وتهمل القريب والأقرب، ولا تنتبه للحظة إلى أن أية حالة انقسامية داخلية ستؤذي المشاركة الفلسطينية في المؤتمرالعتيد (هذا إذا انعقد وكان للفلسطينيين مقعد فعلي فيه)، وإلى أن استمرار الجفاء مع سوريا والتوغل فيه سيرتد ضرراً بالغاً على العرب مجتمعين وفي مقدمتهم سوريا وقضية فلسطين، ومعها – بالتبعية – لبنان.
وبين العواصم العربية تظل دمشق الأكثر فلسطينية بالضرورة، والأكثر أهمية لفلسطين الحاضر والمستقبل، لاسيما في غياب القاهرة القسري.
وشتان بين عمان الهاشمية التي أخذت الأرض من دون القضية، ذات يوم، ولعلها تريدها الآن مرة أخرى، وبين دمشق التي ربطت وما زالت تربط مصيرها بالقضية حتى لو كلفها ذلك بعض الأرض.. السورية!
ففلسطين قضية قومية قبل المؤتمر وبعده،
وكل عربي معني بها ومسؤول عنها.. مع كل الاحترام للقرار الوطني المستقل لكل الدول قويها والضعيف صغيرها والكبير، وصولاً إلى المرسوم على الورق فقط وليس إلا على الورق!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان