تنشر “السفير” اليوم، ونقلاً عن مجلة أميركية رصينة، معلومات قد يراها البعض مذلهة عن واقع الحياة السياسية الأميركية، وقوى الضغط الصهيونية و”تسعيرتها” الخاصة لأعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، قديماً وحديثاً.
وليس القصد من نشر هذا التحقيق المعزز بالأسماء والأرقام والوقائع الثابتة هو التشهير بالكونغرس الأميركي، أو تجسيم صورة النفوذ الصيهوني الأكبر على كتله كما على أعضائه، أو تيئيس العرب من إمكان التأثير على مراكز القرار الأميركي، لاسيما في ظل إدارة مرتبكة وضعيفة وغير ذات سياسة كإدارة كلينتون التي تكاد تهيمن على الكون في حين يتأكد فشلها يومياً في حل المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والعرقية لمجتمعها المتنوع والمأزوم بحيث يبدو وكأنه على حافة الحرب الأهلية.
القصد عكس ذلك كله وهو ببساطة تظهير حقيقة أن العرب لو أرادوا لأمكنهم أن يكونوا – بثرواتهم كما بقدراتهم كما بموقعهم الحاكم – قوة ضغط لا يستهان بها يمكنها أن تفرض على الإدارة الأميركية قدراً من التوازن الضروري للمصالح الأميركية قبل العربية.
إن السياسة الأميركية تجاه العرب، الآن، مهينة وليست فقط غير عادلة أو غير متوازنة.
وصحيح أن الإدارة الأميركية الحالية، وبسبب من أميتها وافتقارها الأهلية لقيادة الكون على قاعدة برنامج ورؤيا لمستقبل أفضل للإنسان، تمارس عنجهية فظة على “حلفائها” الدائمين كما على “خصومها” السابقين، لكن الصحيح أن العرب غير موجودين في حساباتها، وتكاد لا تقيم لهم وزناً، وتتبنى حيالهم سياسة بحت إسرائيلية، بل لعلها أكثر عدوانية وشراسة من السياسة الإسرائيلية ذاتها.
هل هو القدر ولا مفر منه؟!
وهل أقفلت أمام العرب الأبواب جميعاً فلم يتبق أمامهم غير الاستسلام وشطب أمتهم ومستقبل أجيالهم الآتية ودورهم من التاريخ؟!
ولكن المفارقة بين واقع التعامل الإسرائيلي مع الإدارة الأميركية وواقع التعامل الأميركي مع العرب تكشف أن الوقائع قابلة للتعديل وللتغيير، إذا وجد من يحسن التعامل معها بوعي لأسبابها ومكوناتها ومن دون التورط في “مناطحة الثور الهائج”!
وعلى سبيل المثال وليس الحصر فإن توصية كالتي أصدرها مجلس الشيوخ الأميركي قبل عشرة أيام، معلناً فيها الحرب على سوريا عبر لبنان، تظهر كنتيجة لرشوة إسرائيلية صغيرة مع إنها توحي بقرار أميركي كبير،
لكن ذلك لم يتم في مدى بعضة أيام، أو نتيجة لبراعة المفاوض وسخاء المحاور بقصد إظهار الحقيقة المطموسة بالغرض، أو كشف ما خفي أمره على السادة الشيوخ، لاسيما ذلك النفر “المتحدر” من أصل لبناني.
والقصد أن يكون للعرب، أو بعضهم إذا تعذر جمعهم كلهم، سياسة تجاه الولايات المتحدة الأميركية، فلا يحكمهم رد الفعل فيقيمون التماثيل لبطل “تحريرهم” جورج بوش بينما أساطيله تفتك بأخوتهم في المشرق والمغرب.
وفي غياب سياسة عربية ما تجاه الولايات المتحدة ستضمحل إلى حد التلاشي الفروق بين السياسة الأميركية والسياسة الإسرائيلية تجاههم، فيفاجأون برابين في واشنطن كما يفاجأون بمارتين أنديك ومعه دنيس روس بين ظهرانيهم.
وقديم هو وجود تل أبيب في واشنطن، أما أن تجيء واشنطن إلى العرب بوجه تل أبيب ولسانها فهذا تطور خطر إذ هو يمهد لاجتياح إسرائيلي شامل لكل الأرض العربية ومعها العالم الإسلامي.
فليس أمراً عارضاً أن يكون دنيس روس ومارتين أنديك هما الموفدان الأميركيان إلى المنطقة، لتذليل العقبات التي تواجه المفاوضات الثنائية بين العرب و”عدوهم” الإسرائيلي.
إنه تعديل جوهري يضع الولايات المتحدة في مواجهة العرب، مباشرة، ويسقط عنها الشروط الضرورية لدور راعي المفاوضات ناهيك بالوسيط النزيه وقوة الدفع وصولاً إلى “الشريك الكامل” الذي يطل علينا اليوم بهوية إسرائيلية.
ولولا بقية من حياء لفرض الموفدان الأميركيان اللذان يجولان الآن في المنطقة على مفاوضيهم العرب “العبرية” كلغة في التخاطب!
فلقد هان العرب على “صديقهم” الأميركي بحيث لم يعد يراعي حتى الشكل في تعامله معهم، بل هو يصفعهم بالحقيقة الباردة بغير مجاملات، فيوفد إليهم من يسقط الحاجز الوهي بين واشنطن وتل أبيب ويؤكد وحدتهما في مواجهة العرب.
فلم يحدث في التاريخ إن جاء إلى المنطقة العربية وفد أميركي خالص في يهوديته واضح في صهيونيته كهذا الوفد الذي يفاوض بالنيابة عن إسرائيل ولمصلحتها وفي بعض الحالات باسمها.
وإذا كان روس يحاول أن يحتفظ لنفسه بصورة “المعتدل” فإن ذلك الأوسترالي الذي اقتحم قمة الإدارة الأميركية وهو بالكاد قد صار مواطناً (إذ لما يمض على وجوده في الولايات المتحدة ست سنوات) ، لا يخفي ولا يداري تطرفه الصهيوني، بل لعله أعطى السياسة الأميركية تجاه العرب اسمه فصارت تعرف بخطة مارتين أنديك، أو توصف بأنها تطبيق لنظرية أنديك.
وهذه العينة لها ما خلفها، فمن أصل سبعة موظفين كبار في الإدارة الأميركية الجديدة (البيت الأبيض، الخارجية ووزارة الدفاع) يتولون ملف “أزمة الشرق الأوسط” هناك ستة من اليهود، و”الغريب” الوحيد بينهم كان ادوار دجيرجيان الذي تم “نفيه” مؤخراً سفيراً في إسرائيل ليكفر عن “عواطفه” العربية.
وخلف الستة هناك “الايباك” التي ضخت في إدارة كلينتون العديد من أعضائها ومناصريها اليهود حتى ليمكن القول بغير تجن إنها أكثر الإدارات صهيونية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
والبعض يعطي لهذه المنظمة اليهودية دوراً أساسياً في اختيار كلينتون للرئاسة، لضعفه ولسهولة التأثير عليه، ودوراً حاسماً في اختيار آل غور، لنيابة الرئيس، لولائه المطلق للوبي الصهيوني، فكان ذلك أعظم انتقام من جورج بوش الذي وجه نفسه مضطراً ومساقاً لخوض معركة علنية ضد إسرائيل حماية لمصالح الولايات المتحدة الأميركية فخسرها وخسر معها الرئاسة برغم هالة البطولة التي أمدته بها “عاصفة الصحراء”.
أما وزير الخارجية وارن كريستوفر فقد اختير لأنه إداري أكثر مما هو سياسي، ثم إنه قد تجاوز سن التقاعد وبالتالي فهو مضطر لأن يعتمد على مساعديه الشبان والأكفاء والذين يمكنهم رسم السياسة وتوظيفه لتنفيذها.
إذن، فما كان في الماضي تجاوزاً أو مجازاً بات اليوم حقيقة،
كان العرب، بميلهم إلى التبسيط ، يرون في الكيان الصهيوني حصناً غربياً متقدماً أو طليعة هجوم غربي سياسي – عسكري – اقتصادي وعنصري، وصليبي بمعنى من المعاني ، فوق أرضهم،
وكانوا ينقسمون إزاء هذا التوصيف إلى معسكرين: الأول يقول بأنه لا بد من مناهضة الغرب والدخول في معركة مع قيادته الإمبريالية في واشنطن ليمكن بالتالي إلحاق الهزيمة بإسرائيل وتحرير ما احتلته من الأرض ومن الإرادة العربية بقوة الدعم الغربي غير المحدود،
أما منطق الفريق العربي الآخر الذي يدين للنفوذ الغربي (والأميركي تحديداً) بوجوده واستمرار سلطته فكان يقول: طالما إننا لا نستطيع إعلان الحرب على الغرب (الأميركي) فلا بد من الصلح مع إسرائيل.
اليوم يبدو جلياً أن العرب يواجهون – داخل المفاوضات الثنائية كما المتعددة – “عدوهم” الغربي بوجهين: إسرائيل الكبرى، ممثلة بالولايات المتحدة الأميركية في ظل إدارتها الجديدة، وإسرائيل الصغرى القائمة على أرض فلسطين وبعض سوريا ولبنان والأردن التي تهيئ نفسها لتكون “قوة الانتداب” الغربي على العرب جميعاً، أو “نائب الملك” الأميركي في هذه المنطقة التي يمكن أن تمتد من المغرب الأقصى إلى باكستان في قلب آسيا.
والخوف أن يخسر العرب، نتيجة انقسامهم أولاً وتفككهم وضياعهم كما نتيجة تلهف الغالبية من أنظمتهم على “سلام بأي ثمن” بذريعة العجز عن مواجهة إسرائيل، فكيف بمواجهة سيد الكون الأميركي، ما لم يخسروه في الحروب، وهذه المرة ليس من الأرض فقط بل من أسباب وجودهم أمة ومن مقومات وجود “دولهم” التافهة بأغلبيتها والتي لا يمانع حكامها في أن يقروا بالسيادة للحاكم العسكري الإسرائيلي ويدفعوا له الضريبة صاغرين مقابل الإبقاء على عروشهم الكرتونية وبقاء رسومهم على نقدهم الأسود.
في الروايات أن ميزانية السفير السعودي في واشنطن، الأمير بندر بن سلطان، وصلت – عشية حرب الخليج – إلى مليار ومائة مليون دولار سنوياً،
وفي الروايات والقائع أن الأمير بندر قد نجح في استمالة العديد من قوى الضغط اليهودية داخل المؤسسات الأميركية، لاسيما في الكونغرس، وبين مفاخره إنه وجه الدعوة فلباها العشرات من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ وزاروا برفقته مملكة الذهب الأسود والصمت الأبيض، فاقتنعوا بعدالة القضية العربية،
ومع أن الأمير الذي رشحته وترشحه بعض الأوساط الأميركية ليكون خليفة عمه، لنقل الملك إلى “جيل الشبان”، قد توارى في الظل بعد هزيمة “بطله” جورج بوش، وأخذ يمضي معظم الوقت خارج واشنطن مداراة للحرج، فإن السؤال يبقى مشروعاً عن تأثير ذلك المال العربي (المهدور) على قوى الضغط لاسيما في الكونغرس الأميركي الذي يدل التحقيق الذي تنقله “السفير” عن واحدة من المجلات الأميركية الرصينة، إن العديد من أعضائه “يقبلون الهدية” وإن بينهم من هو أرخص كلفة من رئيس دائرة في إدارة غير فاسدة كالإدارة اللبنانية!
ترى هل كان المال العربي يذهب لاستمالة أولئك الذين “اشترتهم” إسرائيل، وتحييدهم، أم لتمرير صفقات مريبة المهم فيها ما يناله الأمراء – السماسرة من عمولات وليس ما تفيد منها البلاد سواء في تحصين أمنها أم في تأمين ازدهارها الاقتصادي أو مستقبل أجيالها الآتية بعد نضوب النفط (!
ما علينا، لنعد إلى الموضوع
في ظل هذه الإدارة الأميركية المتعثرة والتي لا تملك ما تقدمه لشعبها في الداخل، يستطيع النفوذ الصهيوني أن يفرض ظله الثقيل على السياسة الخارجية، بحيث يسقط الحاجز بين المصالح الأميركية والمصالح الإسرائيلية، فتغدو السياسة الأميركية في خدمة المصالح الإسرائيلية.
من هنا تتزايد العدائية في السياسة الأميركية تجاه العرب جميعاً، بمن فيهم الأصدقاء التقليديون بين الحكام العرب للعم سام، وليست مصادفة أن تكون أربع دول عربية على لائحة الإرهاب، دفعة واحدة، وأن تفرض واشنطن عليها العقوبات الاقتصادية مباشرة أو بواسطة “الشرعية الدولية”!! فتمنع على مؤسساتها كما على معظم دول الأرض أن تتعامل معها، أو أن تبيعها بنادق الصيد وطائرات الركاب وزوارق السباحة!
وهذه العدائية التي تتوسع لتشمل المسلمين جميعاً، بمن في ذلك أصدقاء تاريخيون لواشنطن مثل تركيا والباكستان، قد مدت ظلالها إلى قمة الدول الصناعية فإذا بها تدخل طرفاً إلى جانب إسرائيل، في موضوع المقاطعة العربية للمتعاملين مع “عدوهم”، من غير أن تخشى للحظة أن تتأثر مصالحها الهائلة مع العرب – أغنيائهم والفقراء – أو مع الدول الإسلامية التي طالما قاتلت “الشيوعية الملحدة” و”الاشتراكية الهدامة” تحت العلم الأميركي.
… هذا مع العلم أن المقاطعة كانت سلاحاً دفاعياً ولم تكن أبداً سلاحاً هجومياً، وكان أقصى أهدافه أن يستميل الغرب إلى حيث مصالحه الكبرى، أي لدى العرب، بدل أن يذهب إلى سوق محدود الموارد والإمكانات والبشر كالذي توفره إسرائيل.
أي أن المقاطعة لم تكن في أي يوم حرباً عربية على العالم (الغربي) بل كانت أشبه “برشوة” إضافية يقدمها العرب لمن يمتنع عن مساعدة إسرائيل عليهم!
الموضوع، إذن، هو أن تكون للعرب، وبالذات هؤلاء المعنيين بعد بالصراع العربي – الإسرائيلي سياسة، وأن يكون لهم موقف من هذا التطور الخطر في السياسة الأميركية إزاءهم.
وليس المطلوب إعلان الحرب على الولايات المتحدة، ولكن منع التداعي المنطقي في الانحياز الأميركي إلى إسرائيل، في هذه اللحظة الحاسمة، بحيث يغدو “حرباً أميركية” على العرب.
إن المفاوضات تتخذ الآن صورتها الكاملة باعتبارها حرباً جديدة بين العرب وعدوهم الإسرائيلي،
فهل يملك العرب أن يمنعوا تورط الأميركي فيها بحيث يغدو هم “عدوهم” في حين أنهم يخطبون وده كما لم يفعلوا عبر تاريخهم الطويل؟!
هل يقدرون على “السلام” مع الأميركي طالما أنهم لايقدرون على الحرب مع الإسرائيلي وحده، فكيف إذا عزز صفوفه، بل تقدم صفوفه الأميركي؟!
ذلك هو السؤال…
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان