لم تبدأ الحرب على المعاهدة مع سوريا بالتصريحات “العسكرية” التي أطلقها وزير خارجية الكيان الصهيوني ديفيد ليفي في واشنطن،
ولم تكن تل أبيب ساحة الحرب الرئيسية ضد المعاهدة،
فالحرب بدأت حتى من قبل أن توقع المعاهدة، واستمرت بعد التوقيع وحتى اليوم، وإن هي اتخذت أشكالاً أهدأ وأخبث، مركزة جبهتها الأساسية في بيروت، متحاشية المسرح السياسي وملتفة عليه من مداخل اقتصادية وإلى حد ما اجتماعية.
لم يأت إلى بيروت موفد أجنبي، رسمياً كان أم ممثلاً لشركة أم رجل أعمال، إلا وتحدث عن المعاهدة باعتبارها عقبة في طريق إعادة بناء لبنان،
ومن أعوزه الدليل الحسي على “التأثير الضار” للمعاهدة اقتصادياً على لبنان، ألمح بطريقة ملتوية إلى أنها قد تكون ذريعة إضافية لإسرائيل للامتناع عن تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 425.
البعض حاول أن يقول إن المساعدات كانت ستهطل مطراً من الدولارات والماركات والينات والفرنكات وصولاً إلى اللير الإيطالي… لكن المعاهدة كشحت الغيم المثقل بالخير فانحبس المطر وبقيت الأرض فريسة الجدب واليباب.
والبعض الآخر حاول تسويق المنطق الإسرائيلي بأن المعاهدة تكاد تكون إعلان حرب سورية على الكيان الصهيوني عبر لبنان.
وثمة من حاول أن يعزز هذا المنطق بالإشارة إلى السلاح الفلسطيني بوصفه طليعة الهجوم الكاسح الذي سيشنه لبنان – المعاهدة على إسرائيل الضعيفة والمهيضة الجناح.
على الصعيد الاقتصادي المباشر، لم يكن سراً إن حيتان المضاربة على الليرة قد نزلوا بثقلهم كله، ولأهداف سياسية مكشوفة، في محاولة لرفع سعر صرف الدولار إلى أقصى حد ممكن، بحيث تبدو المعاهدة وكأنها مصدر انهيار اقتصادي إضافي. وبفضل تنبه مصرف لبنان، محصناً بقرار سياسي واع فقد أمكن إحباط الخطة بكلفة جاوزت الخمسين مليون دولار لتثبيت سعر الصرف، وهو مبلغ أمكن استعادته خلال أسبوع واحد.
وعلى الصعيد الاجتماعي – الاقتصادي كان واضحاً إن توقيت بعض الاضرابات (وبغض النظر عن أسبابها وهل هي محقة أم لا) قد تم تحديده للمشاغبة على المعاهدة والتشويش على من وقعها.
أطرف ما صدر في هذا الصدد كان على لسان زائر أجنبي “كبير” رأى في موعد التوقيع على المعاهدة اختياراً سيئاً لأنه قد يشكل استفزازاً لإسرائيل، إذ يذكرها باتفاقها المسقط مع لبنان أمين الجميل في 17 أيار 1983.
الأطرف إن بين المستهولين لآثار هذه المعاهدة على لبنان بعض من نصح وشجع ولعله حرض على توقيع اتفاق 17 أيار إياه،
لكأن اتفاق لبنان مع العرب عموماً، ومع سوريا تحديداً، هو المحظر والمرفوض والمستنكر وكأنه مخالف للطبيعة.
ولكأن “اتفاق” لبنان مع المحتل الإسرائيلي، بالفعل لا بالتقدير، هو المرغوب والمشجع عليه وكأنه “قانون طبيعي”،
في ضوء هذه المواقف والتصرفات الواضحة القصد، من دون أن تهمل المواقف غير الودية للدول والجهات الأجنبية الغربية أساساً، يبدو وكأن المقصود جعل لبنان في حالة حرب دائمة مع محيطه، بل مع ذاته،
ومن هنا يأتي التحريض اليومي للسلطة اللبنانية على الاستعجال في نزع سلاح الفلسطينيين وسائر القوى التي ترفع راية مقاومة المحتل الإسرائيلي في الجنوب، في سياق حملة مسمومة تستهدف إعادة لبنان إلى أجواء اتفاق 17 أيار، بل وإلى ما هو أسوأ منها، من دون إبرام وتصديق وتوقيعات فخمة.
إنها عملية ابتزاز يومي، وهي مرشحة لأن تستمر وتتصاعد،
فالضغط الغربي (وواشنطن موجودة فيه من دون إعلان) يستهدف دفع الحكم إلى صدام مسلح مجاني مع الفلسطيني (ومع سائر القوى القائلة بالمقاومة) استرضاء لإسرائيل وتطميناً لها،
والضغط لا يستهدف السلاح الفلسطيني بقدر ما يستهدف الموقف السياسي اللبناني، فمن يصطدم مع الفلسطيني في ظل الضغط الإسرائيلي ، قد لا يتورغ غداً عن فك الارتباط مع السوري تحت الذريعة نفسها: استرضاء الإسرائيلي وتطمينه ولجمه عن عدوان جديد (وواسع) على لبنان – المعاهدة.
لكأنه خيار وحيد الجانب: إذا تصالح لبنان مع ذاته (وبالتالي مع محيطه العربي ومع انتمائه القومي) هاجمته إسرائيل وضربته حتى آخر بيت فيه، فإذا ما أراد رضاها فعليه أن يخرب بيديه مباشرة كل بيوته حتى آخر كوخ فيه.
كل هذا والمعاهدة ما زالت مجرد إعلان نوايا، وعناوين لم تستكمل صياغة بنودها ولا هي وضعت موضع التنفيذ في أي مجال.
وفي أي حال فالمواجهة ولبنان محصن بالمعاهدة أسهل وأقل كلفة من التضحية بالمعاهدة والهوية طلباً لسلامة لن تجيء من الدولة المحاربة الوحيدة في عالم السلام الأميركي… الجديد!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان