تعودنا أن نعيش بلا دولة حتى لقد غدا استذكارها، بمؤسساتها المختلفة، استثناء وخروجاً على القاعدة وترفاً يمارسه أصحاب الذاكرة القوية.
في البداية وحتى انفجار الحرب الأهلية، كان “الرئيس” يلخص الدولة، فهو الحكم والحكومة، مجلس النواب، والانتخابات والدوائر، الجيش والمخابرات والأمن العام والشرطة والمباحث، القضاء والمحاكم والأحكام ومصدر العفو،
لم يكن النظام رئاسياً، لكن الواقع كان يتجاوز ما هو معروف ومألوف ليس فقط في الأنظمة الرئاسية بل حتى في الإمبراطوريات، ناهيك بالممالك، فهنا الفرد الفرد، ومن خلفه “الطائفةط وهي أسوأ بالقطع من العشيرة والقبيلة والعائلة التي يحصر فيها العرش بالوراثة.
اليوم تبدو السلطة في البلاد مشاعاً للقادر على أخذها، بالجملة أو بالمفرق،
لهذا توزعت البلاد طوائف، وقام في كل جهة حكم طائفة تلخص نفسها في رجل أو في تنظيم فئوي معقود لواء زعامته لرجل تختزل فيه الطائفة والمنطقة والعشيرة والعائلة ومصلحة أصحاب المصالح،
… وتوزعت الدولة، بالتالي، توزع البلاد: للطائفة مثل حظ الرئيسين، وللرئيس مثل حظ الزعيمين، وللزعيم مثل حظ المليون مواطن، وللمواطن الدولار بمائتي ليرة والحبل على الجرار.
وتجد بعد هذا من يظهر تخوفه من إفلاس الدولة ويطالب برفع الدعم، وكان الدعم لا العدم هو سبب الإفلاس،
هكذا ببساطة يحمل المواطن سبب نكبته في بلاده ودولته ورغيف خبزه والدواء وحليب الأطفال، في حين يزداد زعماؤه غنى على غناهم، وتتكدس ثروات رجال المال والأعمال و”الشبيحة” وقادة الميليشيات في المصارف الأجنبية… بل إنهم ينزحون ثروة البلاد إلى الخارج، ثم يلوحون بإفلاس الدولة وكأنهم أبرياء كل البراءة من دم هذا الصديق، أي كأنما النتيجة منفصلة تماماً عن السبب، وكأنما السبب خارجهم!
الامتحان الأخير لوجود الدولة كان مأساوياً: اغتيل رئيس حكومة لبنان الشرعية، وفي طائرة عسكرية قامت من قاعدة عسكرية وبقيادة ضباط في الجيش اللبناني، فإذا لا أحد يتحمل مسؤولية هذه الجريمة النكراء التي كانت بمثابة اغتيال لما ولمن تبقى من الدولة والمؤمنين بها.
لا رئيس الجمهورية، ولا قيادة الجيش، ولا الجيش كمؤسسة، ولا الحكومة المقطوعة الرأس، ولا المجلس النيابي الذي يعيش بكورتيزون التمديد، ولا القضاء كمؤسسة، ولا أجهزة المخابرات والاستقصاء والمباحث كمؤسسات شرعية، لا أحد تصرف بالجدية المطلوبة، بالمسؤولية المطلوبة، أو حتى بالإخلاص المهني المطلوب للوصول إلى الحقيقة، ولو بالمعنى المهني البحت وبغض النظر عن القبض على القتلة بعد كشفهم أو محاسبتهم بعد القبض عليهم.
على العكس تماماً، تصرفت الدولة ومنذ اللحظة الأولى، وبشخص الرئيس، وكأنها في صف القتلة، وإلا فما معنى التستر على المشبوه أو المتواطئ أو المقصر أو كاتم المعلومات، ناهيك بالمستفيد من الجريمة؟!
اليوم، وبعد اغتيال المستشار الرئاسي محمد شفير تحاول بعض الجهات المعروفة بتحالفها مع الحكم، أن تعيد اللعبة معكوسة، فتوزع الاتهامات في كل اتجاه مع تركيز خاص على سوريا، وكأنها تريد أن تغطي على الجريمة الاولى بالجريمة الثانية.
فاغتيال محمد شقير، وبغض النظر عن مواقفه وآرائه ودوره، جريمة بشعة تخدم المستفيدين من غياب الدولة، ومن تشويه صورة بيروت، والساعين لإشعال الفتنة بين المسلمين بعدما اطمأنوا إلى دوام نار الفتنة بين اللبنانيين.
وبرغم الكفاءات الكثيرة والثقافة العالية والتجربة الغنية التي كان يتمتع بها محمد شقير، فإنه لم يكن في دوره الأخير أكثر من “موظف” وربما كان أقرب إلى “الخبير الأجنبي”،
فليس سراً ما كانت تتناقله الأوساط المحيطة بالحكم من أنه “وظف لاسمه”.
وليس سراً ما كان يشاع ويذاع في أن الحكم كان، في الغالب الأعم، يتصرف بعكس ما ينصح به المستشار.
فإذا كان من سوء في أمين الجميل فهو فيه قبل محمد شقير وبعده، وهو لن يتحول إلى الصلاح الآن وبعد اغتيال مستشاره الذي لم يكن له دور في القرار.
لقد استخدمه أمين الجميل حتى القتل،
وبعد موته ها هم يستخدمون مقتله للتغطية على جريمتهم في اغتيال رشيد كرامي، حتى ليكاد المريب أن يقول خذوني!!
في أي حال فقد تصرف الحكم وكأن محمد شقير الميت، بل المقتول، أهم لديه ألف مرة من محمد شقير الحي وصاحب الراي والمشورة!
ونعود على دولة كميل شمعون المهددة بالإفلاس، لنتساءل: كيف لا تفلس دولة إذا كانت مداخيل زعمائها وأمراء اطلوائف فيها وأقطاب الحكم وقادة الميليشيات تتزايد طرداً بتناقص موارد الخزينة العامة فيها؟!
إن مجموع ثروات “الزعماء”، وجلهم من “القديسين” في نظر محازبيهم، يفوق مجموع الدخل القومي في سنوات الحرب الأهلية، فما نقص من مال الخزينة قد زاد في مال سادتنا وقادتنا ولله الحمد، ولم يذهب قرش إلى الغريب، ثم إن ما تبقى قد “ربحه” هؤلاء في المضاربة على الليرة، التي كانت تشكو من أعراض السمنة فأخضعوها لريجيم قاس حتى جعلوها 30/1 من قيمتها الأصلية ووزنها القديم.
هل عرف التاريخ حكاماً شنوا حرباً، من مواقعهم في السطلة، ضد دولتهم؟!
هذا أبسط توصيف للحالة التي نعيشها هذه الأيام،
فالشعب مع الدولة، أي دولة، وأهل الحكم ضد أي نوع من الدولة، فأين يكون الملتقى؟!
وماذا يتبقى من دولة يغتالها حكامها كل يوم، في الاقتصاد كما في السياسة، وفي الجيش كما في الحياة العامة؟!
وأين الدولة في بلاد لا يمارس الحكم فيها أي سياسة تضع المواطن والأرض في اعتبارها؟!
وإلا فاين سياسة لبنان الخارجية: اينه في أي شأن من شؤون الدنيا؟! بل اينه من شؤونه التي يريد من العالم أن يهتم بها؟!
إن الحكم يعترف إنه منقسم، وإن انقسامه يربك الدول فلا تعرف كيف تتعاطى مع المسألة اللبنانية ومع من من رموزها،
إن المساعدات الاقتصادية تشحن على اسم الطوائف وميليشياتها وممثلياتها المعتمدة، وكذا الأدوية، فلا يذهب دواء مخصص لمسيحي إلى مريض مسلم وبالعكس، وربما لهذا لا يجد الرئيس الحص هذه الأيام دواء الربو الذي يلزمه باستمرار…
إذن ماذا؟!
لا شيء غير الانهيار، وغير المزيد من الانهيار، وغير البؤس والجوع والشقاء واختفاء المؤسسات بالانتقال أو بالاندثار، وغير الموت في الزمن الكتائبي،
والكل مشغول عنا وقد كان في يوم مضى مشغولاً بنا،
فهل ترانا نعجل في استحضار لحظة الخلاص ولو بالتفاهم على انتخاب مبكر للرئيس الجديد، لعل تلك اللحظة الموعودة تكون المدخل إلى هدنة تسمح بأن نحلم خلافها بانتهاء الحرب؟!
هل يبقي الحكم من هذه الدولة ما يسمح لها بالاستمرار، بعيوبها التي نعرف؟!
وهل تعي المعارضات أهمية أن تتفق على انتخاب مبكر لرئيس جديد فتوفر الظروف المناسب لمثل هذه الخطوة، حرصاً على بقايا دولة تنفع لما تبقى من مواطنيها في غدهم؟1
ذلك هو السؤال،
ونرجو أن نسمع جواباً بغير المدافع وكواتم الصوت والسيارات المفخخة!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان