لكأنما دار الفلك دورة كاملة بين 6 شباط 1984 واليوم،
فخلال ثلاث سنوات فقط (!!) من التجربة المرة يعود المنتفضون على الدولة مثقلين بهمومهم في اتجاه الدولة، وقد تخلوا عن كثير من أحلامهم وأوهامهم في إمكان التغيير والاصلاح وحتى التطوير.
ومن الانصاف أن نذكر بجملة من الحقائق البسيطة التي كادت تضيع في زحام الصراعات والادعاءات وتبرير الأخطاء ودائماً من أجل توكيد الذات والقدرة على الفعل، وبغض النظر أحياناً عن طبيعة هذا الفعلز
أولى تلك الحقائق – إن “الدولة” التي تم الانتفاض عليها لم تكن الدولة إياها، حتى بكل عيوب النظام الفريد ودولته الشوهاء. فالانتفاضات توالت في أعقاب تبدل صورة الدولة نتيجة لأمرين متكاملين: الأول هو الغزو الإسرائيلي، والثاني هو وصول الكتائبي الأكثر تطرفاً وعداء للعرب إلى سدة السلطة في لبنان بقوة الدبابة الإسرائيلية وضعف المواجهة الوطنية العربية – في الداخل والخارج – لهذه الدبابة الغازية.
ثانية هذه الحقائق – إن المنتفضين، من الجبل إلى بيروت فإلى الضاحية، كانوا دائماً في موقف دفاعي، حتى وهم يُسقطون رموز “الهيمنة” الفئوية التي تماهت فيها الحدود بين الدولة كدولة و”القوات اللبنانية” كتنظيم سياسي – عسكري، شكل في تلك اللحظات، رديفاً لجيش العدو الإسرائيلي وغطاء محلياً لأهداف الغزو.
ثالثة هذه الحقائق – إن الجهد الأساسي للمنتفضين قد تركز على إسقاط الثمرة السياسية للغزو، أي اتفاق 17 أيار، وتلك كانت أرض اللقاء بين القوى الوطنية في الداخل، التي يختزن وجدانها هموم الاصلاح السياسي، وبين الحليف العربي ممثلاً بسوريا ومعها جمهور المنتفضين من الفلسطينيين على قيادتهم أو على موقع السلطة في “دولتهم” (منظمة التحرير).
على هذا فلقد كان منطقياً أن تفترق الدروب بين رفاق السلاح والحلفاء في أعقاب إسقاط اتفاق 17 أيار، وأن يكون مؤتمر لوزان على وجه التحديد هو ختام مرحلة أكثر منه بداية مرحلة جديدة.
ومن الانصاف أيضاً أن نقول أن معظم مشاريع الانشقاق عن ادلولة قد انتهت إلى النتيجة البائسة ذاتها، وأولها وأخطرها المشروع الكتائبي.
وخطورة هذا المشروع استثنائية كونه اعتمد لفترة طويلة كسياسة رسمية لرئيس الدولة “الكتائبي”.
لهذا كان التبرير الأهم للمشاريع الأخرى أن أصحابها إنما يقتدون برئيس الدولة: هو البادئ. حاول أن يهيمن على الدولة كلها، فلما خاب سعيه ارتد إلى “دولته” في “كانتونه”.
اليوم يبدو وكأن أمين الجميل نفسه قد تخلى عن هذا الوهم لأسباب موضوعية قبل أن تكون ذاتية، ولعل عودته إلى فتح باب الحوار (واللقاء) مع دمشق تعني في جملة ما تعنيه تسليمه بأن الدولة تكون واحدة وتكون للجميع – مع حفظ التراتبية وامتيازات المواقع من حيث المبدأ – أو لا تكون أبداً.
وكما كان وهم نجاح المشروع الكتائبي قدوة لخصوم الكتائب، فإن سقوط هذا الوهم يستتبع بالضرورة سقوط الأوهام المماثلة، فالكتائب – طوائفياً – هي أم النماذج جميعاً وأعرقها وأقواها. وفي فترة المد كاد الجميع يصبحون كتائبيين، أما في فترة الجزر فيكاد الكتائبي العريق يبرأ من هذه التشوهات والتحولات التي أصابت حزب السلطة القديم وجيشها الرديف.
بهذا المعنى تصبح قمة دمشق المقبلة قمة التلاقي – من جديد – حول صورة الدولة القديمة، منقحة بحدود متواضعة وخجولة، لتبرر العودة إليها مع تجاهل الفشل في إقامة البديل وإدامته.
وبهذا المعنى يمكن النظر إلى طبيعة الاعتراضات وهوية المعترضين،
فمن له مكان في الدولة لاقديمة، مضمون وملائهم لطموحاته ونظرته إلى نفسه، مؤيد إلى حد الاستعداد للقبول بها بغير قيد أو شرط،
ومن ليس له فيها مكان يصل بالرفض إلى حد التلويح باستخدام السلاح،
والمتخوف من افتقاد موقعه المميز الذي تحقق عبر الصراع يرفع الصوت بالاعتراض املاً في أن يلحظ في التنقيح موقعه الجديد الذي يرى فيه ضمانة بل وشرط حياة.
ومعيار النجاح أو الفشل في المشروع الجديد لإعادة صياغة صورة الدولة ليس في “إجبار” الناس على العودة إلى ما قبل 6 شباط 1984 بل أساساً في إمكان العودة بالبلاد إلى ما كانت عليه في خريف 1943.
فالصيغة القديمة هي بنت شرعية لأقصى ما كان يمكن أن تعطيه أوضاع لبنان والمنطقة، حينذاك، حسب ما يقوله مبدعوها،
والمهم أن تأتي الصياغة الجديدة تطويراً لتلك وليس انتقاماً من فشل 6 شباط في تقديم البديل المطلوب والمرتجى.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان