ثبت الرئيس سليم الحص “تخماً” لبيروت الكبرى عند أطراف المتنين، وما يتحاوزهما ، بجولته الطيبة الأثر فيهما وتوقفه في الزيارة – اللفتة للدكتور ألبيرمخيبر، يوم الأحد الماضي، مؤكداً حضور “الحكم” ولو رمزياً في المناطق المستعادة إلى أحضان الشرعية.
وبالمقابل فقد أعطت سوريا مزيداً من الزخم لهجوم السلام بالحركة النشطة والمبادرة للعميد الركن غازي كنعان، رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان، والتي سرعت حسم بعض المسائل العالقة والمعوقة لانتظام العلاقات بين “الحكم” وبين بعض الأطراف السياسية ، ودائماً على قاعدة اتفاق الطائف و”جمهوريته” العتيدة.
وبمعنى ما يمكن القول إن سوريا تساعد على مد بيروت الكبرى بحيث تغدو النواة الصلبة والنموذج، إذ وسعت “حدودها” إلى ما يتجاوز “غدراس” في قلب كسروان، وصولاً إلى حاجز البربارة الشهير، وإلى ما يتجاوز الدامور وصولاً إلى إقليم التفاح في قلب الجنوب الذي يريده موشى أرينز أسيراً دائماً في القبضة الإسرائيلية.
إذن فبيروت الكبرى “مشروع سياسي”، كما وصفه الرئيس الحص ، يكاد يلخص ملامح “الجمهورية الجديدة”، بقدر ما يشكل امتحاناً جدياً للحكم وقدرته على قيادة هجوم السلام لطي صفحة الحرب الأهلية في البلاد.
وحول هذا “المشروع” أو “النموذج” أو “نواة الدولة” أو “دولة بيروت الكبرى”، كما يحلو للبعض أن يسميها، تتركز أحاديث اللبنانيين متضمنة تطلعاتهم والهواجس والتساؤلات المتعددة الأبعاد.
ومن حق اللبنانيين، المحرومين من الحلم منذ فترة بعيدة، ألا يفجعهم الواقع مرة جديدة في أبسط شروط حياتهم في عاصمتهم التي طال اضطهادها وإذلالها بوصفها رمز الوحدة والدولة ومشروع الوطن.
ومع أهمية التفاصيل الإجرائية والترتيبات الأمنية (كم عسكرياً سيتمركز ومن أي الألوية والكتائب وبقياة من) فإن ما يتطلع إليه اللبنانيون هو حضور الدولة وصورة الحكم عبر بيروت الكبرى وفيها.
وعلى سبيل المثال فإن الناس يتساءلون بشيء من القلق:
*هل ستكون بيروت الكبرى مجرد توسيع جغرافي لبيروت الحالية، أو مجرد توحيد بوليسي للبيروتات التي أنجبتها الحرب واقطعت كل “شقفة” منها لإحدى الميلشيات فأنشأت فيها “دولتها” الخاصة تحت راية الطائفة وباسمها؟!
*وهل ستكون بيروت الكبرى مجرد إنجاز أمني، يتحقق بمجرد فراغ الجرافات المعارة أو المستأجرة من إزالة السواتر الترابية والدشم المسلحة، وانتشار جنود الجيش على الطرقات و”المعابر” ونقاط الارتكاز ومفاصل التواصل بين الجبهات السابقة؟!
* وهل بمجرد إزالة خطوط التماس يتم وصل ما انقطع عبر الحرب وبسببها بين الأخوة الذين تحولوا إلى أعداء، ثم بينهم وبين دولتهم؟!
*ثم… من سيتسلم بيروت الكبرى، ومن سيحمي الإنجاز فيها؟!
بداية على المستوى الأمني وفي ظل واقع مستهجن يتمثل في شغور المواقع القيادية في الأجهزة الأمنية بسبب استمرار الصراع عليها بين أطراف الحكم، ودائماً تحت رايات لاطوائف و”حقوقها” و”ضماناتها” في الحاضر والمستقبل.
فلا الجيش أعاد بناء هيئاته القيادية وضمنها جهازه الأمني “المخابرات بفروعها المختلفة وصولاً إلى الأمن العسكري”، ولا جهاز “الأمن العام” في حالة سوية تمكنه من مباشرة مهاماته الطبيعية في خدمة أرشيف الدولة وذاكرتها.
ولا قوى الأمن الداخلي معافاة ومتماسكة بالقدر المطلوب، خصوصاً وإن مواقعها القيادية جميعاً عرضة للتجاذب بعد، وللمقايضة، والبازار مفتوح لكل راغب.
وإذا كانت خلافات أهل الحكم قد عطلت ملء الشواغر، أو تثبيت المؤقت بذرائع ظاهرها سياسي وباطنها طائفي، واستطراداً شخصي، فإن مردود هذا التعطيل يختزن نتائج سياسية، ومن ثم أمنية خطيرة قد تهدد المشروع السياسي (والأمن) في بيروت الكبرى، وبالتالي صورة الدولة العتيدة.
وبعد الأمن هناك الخدمات الحيوية والملحة التي تتطلبها ضرورات الحياة اليومية في عاصمة مجرحة وممزقة ومنهوبة أو مدمرة مرافقها واسواقها ومؤسساتها العامة والخاصة.
وإذا كان الحكم قد فشل على امتداد عشرة شهور في إنجاز هذه المهمة على مستوى “بيروت الصغيرة” التي انطلق منها، فهل سيستطيع النجاح في توفير الحد الأدنى من الخدمات العامة لبيروت الممتدة بين نهر الكلب والدامور والممتدة صعوداً مع طريق دمشق حتى دمشق، أو بالدقة حتى تلك المواقع التي انطلق منها وغطاها وتحرج فيها الجيش خلال جهده لإسقاط التمرد؟!
هل ستستمر فصول الحرب – المهزلة، مثلاً، بين محافظ بيروت وبين رئيس بلديتها والتي تشمل الصلاحيات وحق التوظيف والترقية وصولاً إلى السيارة ذات اللوحة المميزة؟!
وهل ستظل بيروت الكبرى رهينة العتم نتيجة اضطراب العلاقات بين الحكومة وبين مصرف لبنان وذلك الجدل العقيم حول من يفتح الاعتماد ولمن ومتى وكيف، أو نتيجة لما هو أدهى: استفاقة العاملين في محطتي الذوق والجية إلى حقوقهم المنسية في زيادة الرواتب في هذا الوقت بالذات؟!
إن باخرة الفيول قد احتلت الصدارة على امتداد أسبوع تقريباً في كل نشرات الأخبار. وقدمت حتى على احتمالات الحرب في الخليج، فلما من الله علينا بسلامة وصولها منعها ارتفاع الموج من الاقتراب من المرفأ الخاص بمحطة التوليد، ثم اكتشف إن مواصفاتها لا تتفق مع مهمتها الخ..
… وبالتالي هل ستظل بيروت الكبرى بلا مياه، وكيف وبماذا سيغسل اللبنانيون آثار القدم الهمجية للحرب؟!
وهل سيترحم أهالي بيروت (وضواحيها وإضافاتها) على الميليشيات التي نظمت بنسبة أو بأخرى، شروط الحياة اليومية كل في منطقة هيمنتها، وبأموال الدولة وبمنشآتها ومرافقها وأجهزتها إياها.
بكلام آخر أكثر صراحة:
هل سيتمدد عجز الحكم مع تمدد مساحة العاصمة أم ستكون تلك فرصته المرتجاة لإثبات حضوره وقدرته ومبادرته؟!
هل سيظل مجلس الوزراء مؤسسة تحت التأسيس في انتظار قدوم الحكومة الجديدة، أم سيتحرك ويخرج من دور تصريف الأعمال إلى مباشرة السلطة حيث لا “سلطات بديلة” تعترض سبيله؟!
هل ستدخل الدولة عبر قياداتها ومؤسساتها فرادى وعلى استحياء، أم تكون استعادة العاصمة فرصة لتماسك الحكم وهو يعلن عبر وحدته وحدة الدولة؟!
وهل ستظل الإدارة مشلولة والوزارات والإدارات والمصالح والمؤسسات الرسمية خاوية من موظفيها ومن تجهيزاتها الضرورية لإنجاز الحد الأدنى من العمل؟!
هل سيظل موظفو القطاع العام في إجازة مفتوحة أخذوها لأنفسهم في ظل غياب أو تغييب الدولة، فانصرف كل إلى ترتيب وضعه الشخصي بتأمين دخل “محترم” يكفيه ذل الحاجة، مستبقياً لنفسه “المعاش” الحكومي كمصروف جيب (او كراتب للسائق أو الخادمة السيرلنكية!!)
وكيف السبيل إلى استعادة من هاجر من هؤلاء، أو من باع جهده لجهات أخرى، في الداخل أو في الخارج؟!
بل كيف السبيل إلى إقناع من اصطادته الميليشيات أو ذهب إليها بقدميه مدفوعاً بحاجته إلى الحماية وربما أيضاً إلى رغيف الخبز؟!
وهل يستطيع دركي أو جندي يعمل (بعد الدوام؟!) سائق تاكسي ليؤمن قوت عياله بعرق جبينه أن يحمي الأمن والنظام والقانون في بيروت الكبرى في حين إن حكومته لا توليه عنايتها ولا توفر له الحد الأدنى من الضمانات المطلوبة لاستمراره في كنفها وفي خدمة رموزها بوصفها مصدر العدل والحماية والأمن الاجتماعي والأمان الشخصي وحصن القانون والنظام العام؟!
طبعاً، ليس من العدل مطالبة الحكم بإنجاز إعادة صياغة كاملة للدولة، بأجهزتها الإدارية والأمنية والخدماتية خلال أيام قليلة، لكي تدخل بيروت الكبرى دخول الفاتحين القادرين،
ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله،
وعلى سبيل المثال لا الحصر:
لماذا لا يواكب مجلس الوزراء هذا الحدث بجلسة مفتوحة تتصل أياماً لمعالجة مختلف المسائل والاشكالات والمعوقات، يحسم خلالها ما لا بد من حسمه من القرارات (والتعيينات، والتشكيلات) الإجرائية؟!
لماذا لا ينزل الوزراء، كل الوزراء، إلى مكاتبهم، ولو فقيرة أو نصف مهدمة (فبيروت كلها كذلك)، لأعطاء القدوة للموظفين وإلزامهم بالحضور تحت طائلة المسؤولية، مع تعهد صريح وواضح بإعادة النظر في المرتبات والأجور خلال مهلة محددة، طالما إن لا مجال لتثبيت الأسعار أو لمحاصرة الدولار ولجم ارتفاعاته المدمرة؟!
لماذا لا تستنفر محافظة بيروت، ومحافظة الجبل ما تبقى من أجهزتهما، على ضعفهما، واين بلدية بيروت وبلديات الضواحي والبلدات المشمولة بالخطة من كل هذا؟!
إن الإرادة تفعل الكثير وإن بوسائل محدودة،
وتستطيع الدولة، بحضورها، أن تطلق روحاً من التكافل والتضامن الاجتماعي وإن توحد جهد المعنيين في القطاعين العام والخاص، وأن تحرك الدورة الدموية في الأجهزة الخاملة أو المهملة والمنسية.
إن المطلوب فوق طاقة الدولة. لكن المؤكد إن الدولة تستطيع أن تفعل الكثير، لو حزمت أمرها واستنهضت أجهزتها والمواطنين، قبل الأشقاء والأصدقاء في العالم.
وليس مسموحاً بأي حال أن تفشل تجربة بيروت الكبرى أو أن تولد مشوهة بسبب اضطراب العلاقات بين الرؤساء(مثلاً) أو تدهورها بين الوزراء (مثلاً) أو تمرد الموظفين على المديرين (مثلاً) أو “حرد” الضباط أو استنكافهم إما لأنهم لم يعينوا بعد في المواقع التي يستحقونها وإما لأنهم استبعدوا وإما لأن من عين أو سيعين قد اختير بسبب ولائه الشخصي المتزعم في الطائفة وليس بسبب كفاءته وإخلاصه للدولة.
فأخطر ما نواجهه هو أن يحول الحكم الدولة إلى كانتونات: لكل طرف فيه كانتونه، باسم طائفته ونيابته “الشرعية” عنها، يعين فيه من يشاء ويستبعد عنه من يشاء بالنكاية أو بهدف تدعيم الزعامة أو بالغرض الذي هو مرض.
وإذا كان اللبنانيون يرفضون أن تجتاح الميليشيات أجهزة الدولة ناقلة إليها أمراضها وارتكاباتها، فإنهم لا يقبلون من حكامهم أن يحكموهم بمنطق الميليشيات والبزة الرسمية ذات الوشاح.